كاتب الوصية وعاشق سقراط منصور الرحباني : أٌقوى شي يلي مابدّو شي بقلم الأستاذ مروان صواف

كاتب الوصية وعاشق سقراط منصور الرحباني : أٌقوى شي يلي مابدّو شي *

*من " البعلبكية " في عام ألف وتسعمائة وواحد وستين والتي قدّمت في مهرجانات بعلبك , الى مسرحية بترا التي عرضت في مسرح كازينو لبنان عام ثمانية وسبعين وصولاً الى حفلة الأولمبياد بباريس عام تسعة وسبعين ,هل يمكن إيجاز التجربة بعبارة قالها الراحل الكبير عاصي الرحباني وتبناها القدير منصور الرحباني قبل أن يلتقيا في ديار الحق : الفن ابن الوعي والفن ابن الصعوبة , أم أن من الأفضل أن يوّقع المرء على حوار المنصور في فنه بكلمات من أحدث مسرحياته " آخر أيام سقراط " بالقول الآسر " أقوى شي يلي مابدو شي – أقوى الناس من لم تأسره رغبة أو لقمة ؟ , هاأنتَ تقترب شيئاً فشيئاً من الجزء الثالث والأخير من الحوار مع الأستاذ منصور الرحباني المستمد من لقاء تلفزيوني تم تصويره لصالح التلفزيون العربي السوري في عام 1996 , وينشر مطبوعاً لأول مرة وفي مجلة أيام كندية تزامناً مع الذكرى العاشرة لرحيله ,,

& الأستاذ منصور رحباني , دعني أبقى قليلاَ مع " جبال الصوان " مسرحيتكم الأثيرة التي ظهرت في عام 1969 – وفي ظل مناخ مابعد الهزيمة عام 1967 – قرأت عن تعرضها لعاصفة نقدية في ذاك الوقت – ربما يعطينا هذا الأمر فكرة عن طبيعة المزاج النقدي لابل والرقابي أيضاً في تلك الأيام ؟

&& نعم واجهت نقداً في ذاك الوقت – جداً – بدا النقد قاسياً وبمختلف الجرائد والمجلات ووسائل الإعلام في لبنان ,, جميعهم تصدوا وبعنف لهذه المسرحية يوم عرضها لأول مرة , لكنها وثًبت فيما بعد وغدت من أجمل الأعمال والقطع الفنية التي أنتجناها .. & ومن أي منطلق جاء النقد ؟

&& بصدق لاأعرف , إنما أستطيع القول إننا دائماً نميل الى الماضي في أحكامنا ومذاقنا " الناس ماضويون " مع ملاحظة أن المذاق والحكم يتغيران مع الوقت , بيكون مثلاً " شاف " العمل لأول مرة وانتقده ولكن لايلبث أن تصبح للعمل قيمة لديه وذكريات معه ويغدو محبباً عنده , الجديد بتقديري يصعق في بعض المرات فلا يفهمه أو يقبله المشاهد من المرة الأولى : لقد رأى الناس " شغلة " جديدة مغايرة فيها قتل وعنف وموت وهم جاءوا الى مسرح بعلبك وفي خيالهم وتوقعاتهم أن يروا عملاً فولكلورياً " خبز مرقوق أو خبز صاج وأشياء سياحية " فخذلناهم برأيهم وجئنا بهذا العمل القاسي , نعم كانت هناك موجة من النقد القاسي جوبه بها هذا العمل , ولكن فيما بعد أصبح الناس من محبي هذا العمل والمقبلين على رؤياه , بل لعلك تلاحظ كيف أحدث تأثيراً بكل لبناني بل وتبناه كل لبناني ..

& يطالبني الأستاذ منصور بالإبتعاد عن الألقاب في حواره , إنما هل يستقيم أمر الحوار بمفهوم جيلنا إلا بخطاب علمي ؟

&& ماعليك , أبعد الألقاب في الخطاب معي , أبعدها من فضلك

& الأستاذ منصور رحباني , اليك سؤالي التالي ولو استخدمتُ الألقاب مرة أُخرى, كان لكم الفضل في إدخال مجموعة من التعابير الجميلة الى قاموسنا : ضحك اللوز وخلص اللوز وحبيبي مالفي , بعتلك شوق العينين وتنهيدة قلبي مرسال , الخطر بيكبّر حجم الشوق , المعرفة المبّكرة بتهجّر الطفولة , من أين يجيء الأخوان رحباني بمفراداتهما وصورهما " حواراً وغناء " , كيف كنتما ترقَيان بالمفردة شعراً وتقدمان لنا السهل الممتنع , البسيط والعميق في آن معاً ؟

&& أنا أفضّل أن لانشرح الفن , إذا شرحنا الفن نشبه من " ينتف " الوردة وينتزع أوراقها كي يرى من أين جاء العبير ؟ فالأفضل أن لانفعل هذا , الفن ليس بلاغاً حزبياً , والفن ليس مناقصةُ تحوي مواصفات معينة , دع كل إنسان أمام حرية الإنطباع وحرية التفسير, دعه يخبرك عن انطباعه عن العمل وماذا يعني له , دعه يقوم بسياحة فكرية مع ماوضعته أنت كمبدع أمامه , بصدق أنا لاأفسّر عادة , لاأحب الشرح والتفسير , دع كلّ إنسان يتلقى العمل كما يريد , اترك له متعة التفاعل ودعه يذهب مع الكلمة واللحن في سياحة عقلية وجدانية كما أخبرتك ولا تصادر المذاق ومتعة الإكتشاف لديه التي تخلق العوالم الخاصة للمتابع .

& ولكنّ السياحة الفكرية وحرية الإنطباع أمران مخيفان أحياناً ياأستاذ منصور ؟

&& معليش " ليكن " فذاك أجمل وأجدى , فتعدد التفاسير مثلاً في مسرحية ما يكسبها ثراءً وغنىً , فلو جئتَ لمشاهد ما أو مستمع وقلت له : إنني أقصد هذا المعنى هنا وأرمي لذاك هناك أكون عملياً قد سجنتُ المتابع " مشاهداً أو مستمعاً " بوجهة نظري وانطباعي أنا ؟ , لنفترض أننا أمام خمسمائة متابع لمسرحية ما يومياً , سيكون لديك خمسمائة تفسير كل ليلة والمشاهد خلاّقٌ آخر يزامل المبدعَ في عمله ويساهمُ في عملية الخلق وتكوين المشهدية , إنه يأخذ عملَك ويذهب به الى عوالمه ومن الممكن أن يخرج بتفاسيرَ أجمل من تفاسيرك وأنت من أبدع العمل ..

& وماذا إذا تجاوز المتلقي أو المتفاعل " وهي الكلمة الأدق " الخطوط وحملّكما أكثر مما تحتمل معانيكما , هل كنتما مع حرية الإنطباع الى هذا الحد , وقد يكون المتابع أو المتفاعل رقيباً في بعض الأحيان؟

&& " يصطفل " – هو حر – فليحمّل كما يريد ويعمم كما يشاء فسيكون هذا أجمل وأغنى وأكثر ثراءً للقطعة المقدّمة أو المشهد المراد أو الحوار الدائر بين الشخصيات .

& وتفسير الرقباء يا أستاذ منصور ألا تخشاه في حالة ما ؟

&& أبداً الرقباء مريحون وجيدون , كن مطمئناً " ضاحكاً " الرقابة بخير . وهذه ليست مهادنة على الإطلاق , فعندما يلتقط الرقباء شيئاً ويواجهونني به ككاتب – أهلاً وسهلاً – أتذكر مثلاً في مسرحية " الشخص " ذهابَ النص وتحويلَه الى الرقابة بعد إجازته مبدئياً أول مرة , ومراقبتة مرات ثلاث ثم إقراره دون اتخاذ أي إجراء , فقد دار الجدل مثلاً حول عبارة تقول : " يأخذ القاضي القانون ويحكم عليه " .. لاشك أنهم تبنوا مباشرة مفهوم القانون بالمعنى القضائي والحقوقي , ولكننا قلنا في التفسير : إن مانقصده هو آلة القانون التي نعزف عليها , آلآلة الموسيقية المعروفة بأوتارها ونغماتها , احتجت المحكمة والرقابة معها وتم تحويل النص الى محكمة أخرى , وكان رأينا ودفاعنا أنكم أجزتم العمل أول مرة فلماذا الرقابة الجديدة أصلاً , ولكن المسرحية مضت في طريقها الى المشاهد والمستمع .

& - أستاذ منصور , من روح مسرحية الشخص وبقائها في الذاكرة والوجدان أذهب الى سؤالي القادم : هناك هاجس يحكمكم أحياناً وهو هاجس الخلود , ولطالما تبدّى في مفرادتكم " المدى - الزمن – البقاء – الإختباء خلف الأعمار " خذ مسرحية المحطة مثلاً وأغنية ياداره دوري فينا " تعا تنتخبى من خلف الأعمار إذا هنّي كبروا نحنا بقينا صغار " أو أغنية وينن في مسرحية ناطورة المفاتيح " ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان وتركوا ضحكات ولادن مرمية عالحيطان , تركوا صوت الريح وراحو ماتركوا عنوان " , حدثني أستاذ منصور عن بعد الزمن في أعمالكما – عاصي ومنصور - ؟

&& جواب الأستاذ منصور : أنا برأيي وأقولها ثانية : إذا بدنا نشرّحها بتصير كائن لاحياة فيه وربما تنزهت على حدود البشاعة , عاصي وأنا تفاعلنا فكرياً وعشنا عمراً مديداً مع بعضنا البعض وبالبداهة دار حديثنا غالباً عن الموسيقى والشعر والفلسفة وتحديداً عن " الماورائيات " تلك النقطة التي لطالما أقلقتنا : ماذا يكمن خلف ذاك الجدار " المسمى بالحياة " وهذه وحدها مثّلت هاجساً لدى عاصي بصورة أكبر – أما بالنسبة للعب أو العزف على وتر الزمان والوقت فلا شك أنّ لدى الإنسان توقاً أوشوقاً الى الماضي وأن لديه هاجساً لايهدأ من انقضاء الزمن ومرور الوقت ومن تذكر الأشياء , تراه باحثاً عن مهرب من الآتي , إنما في الحقيقة , أنا مؤمن بمسألة معاكسة تماماً في منطق تفسير مرور الوقت " ماأراه أننا نحن الذين نعبر بالزمن من وجهة نظري والزمن لايعبر بنا , وهذه هي رؤاي وأنا أرسم المشهد وأنظم كلمات الأغاني , فللزمن ثقل بتصوري , تراه جالساً مطمئناً جاثماً على الأحياء والأشياء والموجودات كلّها وهي تقاوم وفقاً لقوة الإحتمال لديها , والإنسان يحمل منذ ولادته عامل المتغيرات " يحبو ويزحف ثم يصبح شاباً ومن ثم يغدو مسناً " إنه العابر بالوقت : هو من يمرق " أو يمر " بالوقت , والوقت ماعم " يمرق " فيه , وهو من يتبدل بتأثير القوة الجاثمة المهيمنة الى أن يرحل في النهاية ,, هذا هو فهمي لعنصر الزمن والمدى والوقت في أدبياتنا عاصي وأنا .

& هناك حالة من الأوصاف تواكب نتاجكم الغنائي وتتبع تعابيركم بل لعلها ترافق حالة الإبداع الغنائي في حياتنا العربية الفنية سيما عندما نتحدث عن أغنية وطنية وربما أغنية سياسية وعن أعنية عاطفية ويسميها البعض بالوجدانية - مع أن وصف الوجداني لاينفصل عن الوطني والعاطفي حكماً – سأذهب هنا الى مغناة أو صلاة زاد الخير في أغنية لاتهملني لاتنساني ياشمس المساكين وهي المثال الأشهر في مسرحية ناطورة المفاتبح " ناديتك من حزني عرفت أنك معي , وسعي يامطارح وياأرض اركعي " . وسعت المطارح وجثت الأرض يوم سال الدم في الجنوب فبدت مناجاة زاد الخير للخالق عز وجل مناجاة روحية وجدانية وطنية في آن , عن اتحاد الهم العاطفي والوطني في نتاجكم أسأل ؟

&& لاشك أنني ضد التصنيف والتفريق بين همّ وطني وآخر عاطفي , كيف يستقيم الأمر ؟ العواطف الإنسانية متشابكة , نحن في هذا الوجود , إذا حكينا غرام فلدينا في عقلنا هاجس وهمٌّ وجداني وصوفي وسياسي , وإذا اشتغلنا سياسة لدينا همّ عاطفي , الإنسان بفطرته مليء ومحكوم بأحاسيس لشخصيات كثيرة في وقت واحد , خذ شعبنا مثلاً أينما ذهبت وإلى أية مناسبة " دعوة عشاء مثلاً "بعد السلام وإبداء عواطف الشوق يبدأ الحديث في السياسة وعن أشياء اخرى بالطبع , هموم الحياة كما تراها متداخلة , من هنا - ومن هذا الرحم - جاءت صلاة " زاد الخير " في مسرحية ناطورة المفاتيح في مغناة لاتهملني لاتنساني أو بيتي أنا بيتك , هذه صلاة تعبّر عن فيض لدى الكائن البشري وهو يتوجه بالرجاء والنجوى للقدرة الإلهية وتجاه المطارح الوسيعة كتعبير عن كون الخالق عز وجل " شمس المساكين " واسع بقدرته ورحمته . وما أود الإشارة اليه أن اتحاد الهم الوجداني بشكليه الوطني والعاطفي نابض لدينا وفي المسرح الرحباني والمفردة الرحبانية عموماً ..

& منطقياً , لابد أن يحيا المبدع - كاتباً كان أو فناناً - حالة واقعية ما كي يكون قادراً على تجسيدها , إذ كيف أجسّد شخصية ملهب المهرب في مسرحية يعيش يعيش مثلاً دون أن أختبرها واقعياً , هل من الضروري أن أقترب من واقع الإدمان كي أكتب عن مأساة المدمن مثلاً " عن الإختبار والإنغماس كشرط للإبداع أسأل أستاذ منصور " ؟

&& هما إثنان عاصي ومنصور , فعلاً نحن لم نخضع لتأثير أي إدمان وشعارنا الذي أطلقه عاصي : الفن ابن الوعي , والفن ابن الصعوبة , والإنسان في المدى العميق وعندما يبحر في الحالة قادر على بلوغ هدفه والوصول الى أشياء في غاية الأهمية , لابد للإنسان عامة والمبدع بشكل خاص أن يتمتع بموهبة الإتصال بالأشياء وبعمق , لابد أن يعبّر عن مشاعر المدمن مثلاً دون أن يحتسي الخمر , لابد أن أرسم ملامح المهرّب في مسرحية يعيش يعيش - كإجابة مباشرة عن سؤالك - دون أن تكون لدي فكرة سابقة عن هذه المهنة ودون انغماس , ثم إننا لم نعش في القصور من طرف ثان , عاصي ومنصور من أبناء هذا المجتمع الفقير , بكل معاناة هذا المجتمع وبكل أطيافه وفئاته : فيه المدمن وفيه المعافى , كنا نراهما " المدمنين على الخمر " في طفولتتنا ونشأتنا واحتكاكنا بسلك الشرطة والدرك مثلاً أثناء عملنا في فترة من الفترات , كنا نعرف المهربين ونلتقي أهلنا في الجرد ونصغي الى أحاديثهم وقصصهم , لم ننغمس بأي حالة من حالات الإدمان ومع ذلك مامن حالة إلا وخبرناها كنت وماأزال أومن أن لاضرورة لإحتساء الخمر كي أعايش في إبداعي إحساس المدمن على الكحول , كان رأيي معروفاً , وكنت أقول دائماً : يمكن إذا شربت " شفة واحدة " تبعدني عن السيطرة على الفكر متراً . لذلك لاأشرب أبداً , وأما عن النفاذ لشخصية ما في عملية الإبداع فأقول لك : عليك النفاذ الى العمق " إذا بدّك تكتب لازم تكتب بتمام الوعي ولازم تدخل " , ومتى دخلت سترى أنّ هناك عوالمَ كبيرة قد أتيحت أمامك وأن ثمة اتصالاً بالآخرين سيحدث , ألا يتيح لك العلم الإتصال بقارات وعوالم بكاملها ؟ , وهكذا علم سبر الشخصيات الإنسانية سيمكنك من الإتصال العميق بالنفس البشرية .

& سؤالي القادم أستاذ منصور قد يبدو عائلياً لكنه أكثر نفاذاً وعمقاً من الناحية الإبداعية : أذكر لك عبارة شهيرة : كنا اثنين " عاصي ومنصور " فأصبحنا قبيلة , ووصلنا الى عاصي ومنصور وزياد ومروان وغدي وغسان وأسامة " والحبل على الجرّار كما يقال , كيف ينظر الأستاذ منصور رحباني الى هذه المتوالية الإبداعية مع اختلاف كل تجربة بخصوصيتها ؟

&& لايوجد أخوين رحباني إلا عاصي ومنصور " هدول هم الرحباني " .. لاوراثة في الفن , فالفن ليس قطعة أرض أقوم بتوريثها لإبني " بالسجل العقاري " , ربما لاأعرف من هو ابني في الفن : من يكون ُثم من سيكون ؟ , لكن تشاء المصادفات " إن شئنا القول " أن تثبت الشخصيات الخارجة من معطف عائلة الرحباني وجودها : الياس رحباني مثلاً أثبت وجوده وهو الأخ الأصغر , بعدين عدا الأسماء التي ذكرتها أنت هناك ابن شقيقتي بشارة الخوري حفيد الأخطل الذي أصبح مؤلفاً سيمفونياً في أوروبا اليوم , هؤلاء جميعاً يحملون اسم الرحباني لأنهم يحملون اسم الرحباني أو ينتمون اليهم فماذا يفعلون " هل يبدلون هويتهم وأسماءهم " , دعني أقول كلهم تحت المحك يثبتون أنفسهم " أستثني الياس أخي الأصغر " الذي غدا مستقلاً وشيخ طريقة كما يقال عادة في الوصف . صحيح هؤلاء خرجوا من المعطف الرحباني ولكن إذا " بدهم " أو إذا أرادوا أن يقلدوا أباهم او عمهم فمعنى ذلك أن أباهم وعمهم ألغيا وجودهم أو أغنيا عنهم , لذلك لابد من إثبات الوجود والبصمة الذاتية , لابد من ابتكار الطريقة الخاصة بكل واحد منهم وهناك مكان وفسحة للجميع " ألم أقل لك منذ البدء إن الحضارة تواصلية ومامن عامل يُغني عن الآخر .

& والغافي , صاحب العقل زينة الحاضر الباكي الحزبن الضاحك زياد الرحباني ياأستاذ منصور , ماذا عنه ؟

&& زياد الرحباني أبدع ويبدع مذ خط لنفسه طريقاً واستقل – زياد إنسان عميق مليء بالفرح والحزن في آن – وهو ينتزع الضحكة منك " بياخدك على الحزن والأسى زياد , في مسرحيته " بالنسبة لبكرا شو " إذا أخذناها مثالاً وقبل المشهد الأخير بقليل يوصلك لأقصى الحزن وأنت تضحك بصوت عالٍ , إنسان عميق جداً وأنا دائماً أحس به وأتفاعل مع إبداعه وله عندي اعتبار خاص إبداعياً ..

& هل فكرتَ بإشادة عمارة رحبانية , مدماك فني يضاف الى مدماك آخر , وأن يتم التلاحم إبداعياً مع ابن الأخ لإنجاز هرم رحباني صغير يليق ؟

&& لافائدة " مابيطلع منها شي " الفن فردي . بالفكر – والفن فكر – ينبغي أن تتعمق بذاتك ولا يستطيع أحد أن يدخل اليها , هذا محال , هناك التجربة الغريبة الفريدة عاصي وأنا " أديش أنكر الواحد منا ذاته والأنا اللي فيه حتى قدرنا ننجح " ومع ذلك كان ثمة مساحة صغيرة نتجادل عبرها على فكرة مثلاً , نوقف العمل مراراً ونؤجل على جملة موسيقية ما أو جملة شعرية . ماخلا ذلك لست أتصور أن هناك إمكانية لحدوث اندماج ولاأتصور أن التجربة قابلة للتكرار أو يمكن أن تحدث وكل عمل يتدخل فيه كثيرون تكون النتيجة هي الفشل غالباً , ألا يقال عادة " كثرة الطباخين تحرق الطبخة أو تفسد مذاق الطعام " ؟

& سأذهب في السؤال مسافة أبعد قليلاً : لكم تجربة عربية أذكرها تماماً ممثلة بمسرحية الشخص وصوت عفاف راضي مثلاُ , توقعنا أن تمضي قدماً في هذه التجربة بأعمال جديدة تماماً تتيح التعاون مع قدرات وأصوات قادمة الى البيت الرحباني من سورية ومصر مثلاً من المنطقة المغاربية فرضاً ومن منطلق كونك مسكوناً بهاجس الموروث الشعبي العربي كما تشهد أعمالك , لماذا لم تثمر هذه التجربة أعمالاً حديثة وليست مجرد إحياء لمسرحية رحبانية فيروزية عريقة ؟ لماذا لم تتجه لتكريس ظاهرة عربية " مدماك فني لبناني يلاقي مدماكاً فنياً مصرياً ويعانق مدماكاً مغاربياً والباني هو منصور الرحباني

". && لا أتصور أن النتيجة ستكون عملاً صادقاً " مابيطلع حقيقي وصادق ". لعلي مدرك لأمر وأومن به , أنا منغمس في منطقة مشرقية هي لبنان وسورية " هناك مايشبه التلاحم بالعادات والفولكلور الغنائي والفولكلور الآخر وقوامه اللباس والطعام وغير ذلك , وهذا أمر أراه في منتهى الأهمية , أنا غير قادر على التفكير بالبيئة المصرية كالفنان المصري مثلاً ولا أستطيع الإدعاء بمجاراة الفنان المغاربي في فهمه لبيئته " سأكون كاذباً ودخيلاً " وعندما أكتب هنا مقطوعة لبنانية أو سورية فأنا منغمس بالتراب هنا .

& دائماً يدور الحديث عن إمكانية إعادة أعمالكم لتقف على قدميها من جديد سيما مع وداع قرن وقدوم آخر ؟

&& ماتمنيته حقاً أن تعاد هذه الأعمال قبل ان يرحل نصري شمس الدين وفيلمون وهبي مثلاً , أطال الله عمر السيدة فيروز , " إذا أردنا إعادة هذه الأعمال حقاً ينبغي أن تعاد بالناس يلي عملوها بأنفسهم " لاشك أنك قادر على تجسيد النص في أي عمل قديم معروف مع أشخاص آخرين , لكن المنطقي لو استطعت أن تُسجّل الأعمال بنبض وحضور الأصلاء وهذا مستحيل بالطبع الى جانب موانع أخرى , فكل مسرحية من هذه المسرحيات تتطلب ميزانية مالية لاتقل عن ميزانية إنتاج مسرحية جديدة تمثيلاً وإخراجاً وتصميم ملابس وعروضاً راقصة وأجور مدربين وموسيقيين وغير ذلك وهذه مسألة ليست سهلة وتحقيقها متعذر.

& برؤى الأستاذ منصور : الى أي مدى استطاعت المعالجة البصرية التلفزيونية أن تعوّضنا عن ذاك السحر الذي يضفيه المسرح " مسرح اللحم والدم " ؟

&& لاشك أن التلفزيون بشاشته الصغيرة يحجّم العمل : العرض المسرحي التلقزيوني فيه صدق ولكن ليس كالحقيقة , ناهيك عن فارق جوهري غير الجانب التقني والحقيقة الفنية : شاهد العمل لأول مرة على شاشة التلفزيون ثم عد لمشاهدته مرة ثانية و ثالثة ستراه هو هو لايتغير ؛ على خشبة المسرح ترى الممثل كل ليلة هو آخر – جديد بتفاعلاته ويأخذ من الناس وجمهور الصالة إضافة في كل عرض دون قصد ودون أن يشعر , ويعطيهم شحنة ثانية , لذلك الانسان كل ليلة على المسرح مختلف عن الليلة السابقة واللاحقة بالبداهة , دائماً نابض متدفق " طازج " غير معلّب .

& وعلى ذكر الممثل أود أن أسأل الأستاذ منصور , هل كان الممثل تابعاً في أعمالكم غالباً ومتى كان مبدعاً . من هي الشخصيات بتقديرك التي استطاعت أن تضفي من روحها على ماكتبتموه شيئاً آخر ؟

&& اسمح لي أن لاأذكر اسماً لأي من الشخصيات , كلهم مبدعون وجميعهم قديرون , لاشك أن كلّ ممثل وبصورة عامة قادرٌ على أخذ النص ومنحه مضامين ثانية تضاف للنص الأصلي ولما قرأ ؛ تماماً كما يضفي المغني جماليته بصوته وأدائه على اللحن الأصلي المعطى له ودون أي تغيير جوهري - كلهم بلا استثناء كانوا على قدر من القيمة كبير كما أن لكل منهم الحريةَ في أن يتصرف إبداعياً كما يرى .

& كنا دائماً نبحث عنكما وراء الشخصيات التي ترسمان ملامحها إبداعأ : ربما يراكما المتابع مختبئين وراء " شخصية راجح " في مسرحية - ومن ثم فيلم - بيّاع الخواتم أو وراء شخصية " شبلي " هو يلعب لعبة الغامض في مسرحية يعيش يعيش أو وراء شخصية جرحي ماسح الأحذية الذي يعرف الناس من خلال جلوسهم أمامه وليس فقط من قياس حجم أقدامهم ومقاس أحذيتهم , دعني أسألك أين أنتم من شخصياتكم ؟

&& ابحث عنا في كل هذه الشخصيات وستجدنا , لاشك أن الإنسان يختزل في داخله تناقضات كثيرة وفي كل مرة وحسب الموقف يستخرج شخصية ويرسم ملامحها للناس " بس الحقيقة الواحد منا فيه من الكل " متل شخصيات سبع ومخّول وبو فارس , هم نحن بلا جدال , كل شخصية من هؤلاء هي صورة من صور الإنسان بما له من وجوه كثيرة زاخرة بتناقضات كبيرة .

& من تعا ولاتجي وكذوب عليي " إحدى أغنياتكم الأثيرة " الى " يلّي عايزني يجيني أنا مابروحش لحد " وهي إحدى الأغنيات الرائجة في أيامنا , ماذا حدث لأمانينا وماذا جرى لأغانينا ؟

&& في كل زمان ومكان كان يقال " إن الفن آخذ في التراجع والهبوط , ليس في البلدان العربية فقط وإنما في العالم كلاّ , ولا أعرف السبب ؟ ربما دورة الحياة نفسها تشهد تراجعاً وانحطاطاً ثم تعود لترتفع وتتقدم من جديد , ربما هذا دقيق لكني أجزم أننا نحيافي المرحلة المنخفضة غنائياً ومن يدري " ربما تعود الرومانسية بعد فترة ويمكن أن تزدهر أغاني الفروسية من جديد , هل أحاكم المصدر أم ألوم الناس ؟ لن أفعل هذا ولا ذاك , سأبقى من أنصار القول : دع كلّ الأزهار تتفتح وكلّ من لديه موهبة سنقول له " تفضّل " , ثم : لندع التاريخ أو المذاق الشعبى هو الحكم , سيتم الإحتفاظ بالجيد وسيسقط الغث تلقائياً

& سؤالي الأخير : بشرّتنا بربيع قادم ذات يوم فأية وصيّة تنقلها الينا كأجيال " الربيع السابع والوصية عنوانان لمسرحتين لك ؟

&& لاأعرف مااقول بكل صدق , فأنا أكره الوعظ , ولكن اسمح لي ان أقول ونحن في هذا الموقع من العالم " وأنا أحكي دائماً من موقعي في سوريا ولبنان " مايلي : أنا أتصوّر أن علينا أن نتحول وبسرعة فائقة من كمية الى نوعية , فيخرج منا الموسيقيون الكبار والسياسيون العظام والأطباء المهرة وأصحاب الأبحاث النوعية والمهنسون الكبار لنغيّر وجهة نظر العالم فينا لأنهم يناصرون الغير في منطقتنا على أساس تفوّقه وتخلفنا , واسس التقدم كامنة فينا , من هنا ألح على المناداة بضرورة التحول الى النوعية لنستطيع الثبات والإنتصار , لنكن غزاة فكر وعلم , هذه رسالة محبة وجمال وحضارة وأملي أن نتسلح بالفرح والطموح .. وبنبقى ومنوصل ,,

تم تسجيل الحوار في دار الأستاذ منصور رحباني 1996 , المادة مستمدة من برنامج تلفزيوني حمل اسم " وجهة نظر " انتاج التلفزيون العربي السوري وقاد فريق العمل المخرج المهندس أسامة خليفاوي بقلم وإعداد وحوار مروان صواف،

مواضيع ذات صلة