في حضرة الروائي الكبير حنا مينه... اقتصّت الغربة منه كثيراً فكان الربّان المغامر عامر فؤاد عامر

في حضرة الروائي الكبير حنا مينه... اقتصّت الغربة منه كثيراً فكان الربّان المغامر. تتردد جملته الأخيرة، التي نطق بها أثناء وداعي له على باب بيته، في ذاكرتي، وجاءت بعد أن قلت له: "بماذا توصيني اليوم؟"، فأجابني مؤكداً: "عندما أموت، قلّ للناس لا تبكوا عليه، بل قولوا الله يرحمه، لقد عانى كثيراً في حياته، وتعذّب". كان الروائي الكبير "حنا مينه" في تلك الفترة على انتصارٍ مع مرضه، الذي قدّره الطبّ بأنه شللٌ لن يتمكن بعده من الحراك، لكن طاقة التحدّي لديه جعلته الإنسان الذي لا يقف أمامه شيءٌ ليوهن قواه، فقد شرح لي أثناء اللقاء أنه كان يدرّب عضلات جسمه ويحركها واحدةً تلو الأخرى، مستعدّاً ليومٍ تمكّن فيه من النهوض مجدداً، والمشي، ومزاولة النشاطات كافة، وهذا ما جعله يُقبلُ على باب بيته ليفتح بابه ويستقبل زائريه بنفسه. يضيف أيضاً أنه لطالما أكد لزوجته، رحمها الله، على فكرة أن الجسد البشري يُمكن التحكم فيه، ولا يمكن تسليمه للمرض مهما كان شديداً، وهو بذلك كان يشجّعها كي تتغلب على مرضها الذي أتعبها وسيطر على جسمها. يشبه البيت الذي يقطنه الروائي "حنا مينه" وجهه تماماً. على سطح الخزانة تراكمت حُزم الأوراق ومشاريع روائيّة، وهناك أكداسٌ من الأوراق والكتب المُغلفة بالنايلون، وهنا يحضر في بالي السؤال: أما زال لدى الأديب حنا مينه المقدرة على تنظيم أوراقه، وفردها، وجمع معلوماتٍ سجّلها عبر سنواته التسعين، ومن هو الشخص الذي يتمكّن من احتواء كلّ هذا الكم من الأوراق، والقصاصات الورقيّة والدفاتر والكتب، هل هناك من يساعده أم أن صديقاً يأتي ليرتب له هذه الأمور، التي يريدها، ويناوله ما يحتاجه منها، ومن معلوماتها؟! يباغتني بحديثه وأنا أجول ببصري في زوايا الغرفة التي جلسنا فيها معاً: "يوم البارحة تعبت كثيراً، وكان صديقي "أبو أحمد" موجوداً، ولم يتركني لأنه خاف عليّ، لكنني أجبرته على الذهاب إلى بيته، فأنا أريد أن أواجه الموت وحيداً، وبقوّةٍ ومن دون خوف، ثمّ مضت الساعات الواحدة تلو الأخرى، وبزغت أنوار الشمس من جديد، ولم أمت". كانت نهاية حديثه مرفقة بضحكة كبيرة وعالية، تلتها ضحكاتي أنا والمصوّر الذي رافقني في هذه الزيارة. ثمّ نظر إليّ من جديد، وقال: "وجوهكم مضيئة، فأنا مسرور بوجودكم، لربما الله أطال في عمري يوماً واحداً لأراكم". يخطر لي السؤال عن رأيه بما قاله عنه الروائي الشهير نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1988، بعد علمه بأن الروائي حنا مينه قد ترشح لنيل هذه الجائزة مع نهاية تسعينات القرن الماضي، فقد ذكرت الصحافة العربيّة بأن "محفوظ" علّق بأن "مينه" يستحق نيلها فعلاً. لكن الروائي حنا مينه يشير إلى أن نتاجه الروائي وتجربته الذاتيّة في عالم الرواية أغنى مما أنتجه عالم نجيب محفوظ، الذي لم يتعدى في تنقلاته بين الاسكندريّة والقاهرة، فكانت حياته مقتصرةً على تلك البقعة الجغرافيّة فقط، بينما هو سافر وأبحر في مياه الأطلسي والمتوسط، وجابه أخطار كثيرة، كربانٍ مغامر في بقاع كثيرة من الأرض. تشرّد وواجه وعانى، وعاد بزوادة من الخبرة والتجربة الكبيرة، ومساحته الجغرافية تلك، منحته روح المغامرة والغنى، فكانت كتاباته متنوعةً أكثر. فها هو يردد (بعيون دامعة): "اشتغلت حلاقاً، وعملت أجيراً في عدّة مهنٍ، وكنت بحاراً، أبحرت في المحيط الأطلسي ناهيك عن البحر المتوسط، لقد تغربّت كثيراً، وأكلت الغربة مني". يقودنا الحديث طواعية للعمل الروائي الجميل "نهاية رجل شجاع" التي تُعدُّ قفزةً نوعيّةً للدّراما السوريّة، بعد أن تمّ تحويلها إلى مسلسلٍ تلفزيوني حمل نفس الاسم، للسيناريست "حسن م يوسف" والمخرج "نجدت إسماعيل أنزور"، ولا شكّ أن قوّة الرواية وأهميتها شكّلت عنصراً بارزاً في أهميّة نجاح المسلسل وشهرته الكبيرة، وكان لا بدّ لنا من التطرّق لهذه التجربة الجميلة، وعنها تحدّث الأديب "مينه": "صنعتْ هذه الرواية المُحوّلة إلى مسلسل تلفزيوني من أبطالها نجوماً في عالم الدراما، مثل: أيمن زيدان"، و"الكثيرين، ومن بينهم ابني "سعد مينه" الذي كان شابّاً صغيراً حينها، وما أذكره الآن وما لفتني كثيراً هو مشهد كيفيّة قطع ذيل الحمار، فقد خدّروا الحمار كي لا يشعر بالألم ويؤذي من حوله، وقد كان مشهداً جميلاً أثناء تنفيذه، اجتهدوا في بناءه كثيراً وقد داووا الحمار بالكحول بعد قطع ذيله، ومنحوا صاحبه المال تعويضاً". كان يصف كلّ ذلك بمحبّة وفرح وسعادة ويقول بين كلّ جملة وأخرى: "الله يرضى عليك يا سعد"، ثمّ تابع: " كتبت الصحافة المصريّة عن مسلسل "نهاية رجل شجاع" أكثر مما كتبت السوريّة، وقد عُرض المسلسل في مصر مرتين في ذلك الوقت، ومن المعروف عن المصريين سابقاً، أنهم لا يعرضون سوى المسلسلات المصريّة فقط". تكررت التجربة من جديد في اتخاذ رواية أخرى من روايات "حنا مينه" لتكون مسلسلاً تلفزيونيّاً في مسلسل "المصابيح الزرق" عن الرواية نفسها وكانت من إخراج فهد ميري. لكن في السينما السوريّة الأمر كان مغايراً فقد تعددت التجربة السينمائيّة مع رواية "مينه" في إطار تحويل الرواية لفيلم سينمائي طويل، وكانت التجربة الأولى مع فيلم "اليازرلي" 1974 للمخرج "قيس الزبيدي" المُعتمد على قصّة "أكياس الرمل" ضمن مجموعة "الأبنوسة البيضاء". ثم جاء فيلمي "الشمس في يوم غائم" 1985 و"آه يا بحر" 1993 للمخرج "محمد شاهين" المأخوذان عن أشهر رواياته "الشمس في يوم غائم" و"الدقل"، وفيلم "بقايا صور" 1999 للمخرج "نبيل المالح" لرواية بنفس الاسم أيضاً، وآخر التجارب كانت "الشراع والعاصفة" 2014 للمخرج "غسان شميط" أيضاً عن رواية تحمل الاسم نفسه. مضت لحظات اللقاء بسرعة، وتزدحم ذاكرتي بالكثير من الحديث والمفاصل التي طرحها الأديب حنا مينه يومها. وأجد نفسي اليوم غير قادر على وضعها جميعها أمام القارئ، وسيكون لهذه الأفكار وقته المستقبلي لنشرها كلّها في مجموعةٍ واحدة.

مواضيع ذات صلة