شجرة الحور العتيقة.. قصة قصيرة ل.. محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية

يسري الخبر في الحي سريان النار في الهشيم.
مصطفى قتل أخته حليمة!!
يذهل الكبير والصغير في الحارة.. شيء لا يصدق! حلم أم علم؟! أيعقل أن يقتل مصطفى أخته حليمة التي ربته وأولته رعايتها كل هذه السنين الطويلة؟ وتجري رائحة الموت في حارات الحي, ويشيع في الجو عبق الجريمة والدماء, تثار تساؤلات مبهمة فالوقت ما يزال مبكرا لمعرفة كل شيء.
المكان ضيق. إنه الطريق الذي يصل حي العقيبة بالأحياء الحديثة. عن يمين الطريق تمتد البيوت الطينية القديمة في خط متعرج كالأفعى, وعن يساره يمتد سور المقبرة المتهدم وحاصل الخشب.
الوقت شتاء. والتلاميذ يسرعون إلى مدارسهم فالساعة تكاد تقترب من الثامنة صباحا, والدواب تعود من سوق الهال إلى بساتين الديوانية بعدما أفرغت أثقالها, والغيث كف عن الهطول مذ أطلت الشمس بنورها الأشقر من خلف شجرة الحور العتيقة عند بوابة المقبرة. ولكن الجو ما زال يعبق برائحة المطر والحركة باردة, فاليوم من أوله والناس رائحة إلى أرزاقها.
- صباح الخير عم عبده..
- صباح الخير.. تفضل.
وتدوي في المقبرة رصاصتان. يسقط اثرهما جسد امرأة ملفعة بملاءة سوداء.
يقفز مصطفى من على سور المقبرة المتهالك إلى الطريق الضيق ليودع رأس أخته الرصاصة الثالثة. يرتعد الناس وينتشرون بعيدا. يزعق التلاميذ كالنساء. يغطي مصطفى ساق أخته الأبيض الذي انكشفت عنه الملاءة السوداء فيما هي تلاقي الأرض الموحلة. لم يهرب مصطفى. يرتد الناس من انتشارهم ليشكلوا حلقة.. يا اللهول!! وتضيق الحلقة حول القتيلة والقاتل, ويشتد الزحام.. شرطي كان يعبر الطريق يمسك بيد مصطفى ويخرجه من وسط الحلقة البشرية. عينا مصطفى تحدقان في الفراغ كالصقر.
ما الخطب؟!
مصطفى قتل أخته حليمة!
لماذا؟
 لا أحد يعلم..
بيد أن الشائعات بدأت تجتاح حارات الحي والأحياء المجاورة. ثمة همس في
 الأمر. همس يمس الشرف والشرف مسألة مدمرة قاتلة.
وتصبح حليمة وأخوها مصطفى حديث الحارة. تقول جارتها أم لطفي:
- شيء لا يصدق! شيء لايدخل العقل! حليمة أطهر من كل ما يقال.
وتسأل أخرى مرتابة من أمر حليمة:
- إذن لماذا قتلها أخوها؟!
- من يدري إن بعض الظن إثم..
وتقول إزدهار العانس:
- يقولون إنها كانت تحب شابا منذ زمن طويل..
تصمت النسوة ويرهفن أسماعهن.
تتابع إزدهار:
- ويقولون إن هناك علاقة بينهما.. وإنها حامل.. وإنها..
تقاطعها أم لطفي الجارة:
- كل هذا الكلام غير صحيح احفظن عرض هذه المسكينة واذكروا محاسن 
 موتاكم, أنسيتن حليمة.. أنسيتن أخلاقها الطيبة؟!
وتقول العانس في حدة مشوبة بالحيرة:
- إذن لماذا قتلها أخوها؟ أهكذا بدون سبب؟
 وتقول أم لطفي بنبرة تشي بإنهاء الحديث:
- العلم عند الله..
وتسأل الست بدرية, وهي عجوز صموت:
- من سيسقي اصص الورد والياسمين والدالية في بيت حليمة؟
 تنتبه النسوة إلى أن واجبا يجب أن يقمن به. فالبيت خال.. حليمة تحت التراب 
 ومصطفى في السجن والورود والدالية والياسمينة وكل عرق أخضر بحاجة إلى ماء.. فالغيث لا يسقي إلا الأحواض المكشوفة أما الأصص غير المكشفوفة فستموت لا محالة.
ولكن سرعان ما يفقن إلى حقيقة ثانية أن حليمة ماتت ومصطفى في السجن
 وأنهما لن يعودا إلى بيتهما فلمَ إذن يعنين التفكير بورود ودالية وياسمينة حليمة.
ومع غبش فجر اليوم التالي تهطل أمطار غزيرة. ثم تطل الشمس من خلف
 شجرة الحور العتيقة عند بوابة المقبرة. وتعود الحركة باردة فاليوم من أوله والناس رائحة إلى أرزاقها.
- صباح الخير عم عبده..
- صباح الخيرات.. تفضل.
‏‪ ‬
الرياض 5 تشرين الثاني 1983
•••••••••••••••••••••••••••
ولهذه القصة حكاية:
حصل أن استلمت النسخة الأولى من مجموعتي القصصية "منمنمات على جدران دمشق القديمة" وأنا في محل صديقي سميح ياسمينة قرب البناء الذي اسكنه في شارع بغداد. وكان في مكتبه داخل المحل خليط من الخلق. وحصل أن دار الكتاب بين الجالسين كما يدور أي شيء على وجه هذه البسيطة. بعضهم نظر إلى الكتاب وكأنه شيء هابط من كوكب آخر, وآخر تصفحه مجاملا, وجالس أخير بقي الكتاب بين يديه يقرأ فيه ما تيسر له من قصصه القصيرة جدا. وصار عندما خرجت من المحل هربا من دخان السجائر أن تقدم مني الرجل الذي تكرم وقرأ ما تيسر له من كتابي وأمسك بذراعي برفق وقال لي وهو يشير برأسه نحو بائع الذرة العجوز الذي كان واقفا قرب حلته ليس بعيدا عن مقبرة الدحداح:
 "هادا هو.."
قلت له مذهولا من مباغتته:
 "شوبو؟"
أجابني:
 "هادا هو اللي قتل اختو بقصتك
 لم يكن ذهولي فقط من أن الماضي قادر على العودة بهذه القوة, متمثلا بالقاتل الذي شهدت جريمته بأم عيني ذات صباح منذ قرابة خمسين سنة (تقريباً عام ١٩٥٧) فيما كنت ذاهباً إلى مدرستي الابتدائية (الوليد بن عبد الملك), بل كان ذهولي من تلك العلاقة التي قامت بين الحدث والكاتب والقارئ, وإن مضى عليها أكثر من نصف قرن.
☆ كتبها القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي/ أيام كندية، ونُشرت في ١٨ أكتوبر ٢٠٢٠

مواضيع ذات صلة