أيام بلا ضفاف.. |2| رواية الأستاذ محمد صباح الحواصلي/أيام كندية

..لبثت في مقعدي بالطائرة خافق الصدر مذ أعلن كابتن الطائرة عن قرب وصولنا إلى مطار هيثرو في لندن. ماذا يتعين عليَّ الآن أن أفعل بعدما أحمل حقيبتي وأجد نفسي خارج المطار؟ فالوقت مقدم على الليل.. ليل شتائي في بلاد غريبة باردة بغتاتها البشرية لا ترحم. أخشى أن يكون جاري المقيم في لندن الدكتور منيب ميداني لم يستلم برقيتي التي أعلمته فيها عن قدومي. 
    ألقيت نظرة أخرى من خلال نافذة الطائرة، فلم أتبين إلا ظلاماً دامساً موشى بأضواء صفراء وبرتقالية تغطيها غلالة من سديم هش. الرؤية غير واضحة، وذهني مضطرب لكنه متوقد متوثب يحاول أن يتغلب على مخاوف غربته الأولى خارج بلده. بعد دقائق سوف تبدأ رحلة الاكتشاف والتجربة، والمعرفة. المعرفة في المقام الأول كما أكد لي والدي وأوصاني: "تذكر أن هدف سفرك هو طلب العلم."
    حطت الطائرة على مدرج مطار هيثرو بسلام. الركاب يستعدون للخروج. وجوههم متعبة من وعثاء السفر لكنها مطمئنة متلهفة؛ فهم يعلمون وجهتهم وهناك من ينتظرهم. أما أنا فربما أكون الوحيد الذي لا يعرف أين يذهب، وأخشى ألا يكون الدكتور منيب ميداني ينتظرني. مجرد التفكير أنني قادم إلى لندن كلها بمرها وحلوها وبردها وضبابها كان يقلقني. توقفت الطائرة والركاب يعدون أنفسهم لمغادرتها، ثم دخل الطائرة موظف من شركة الطيران السورية ونادى اسمي:
    "السيد طلال قدري."
    أجبته متلهفاً:
    "أنا طلال قدري."
    تقدم مني وقال:
    "أهلا بك في لندن. لقد اتصل الدكتور منيب ميداني بشركة الطيران السورية وطلب مني أن أعلمك بأنه يعتذر عن المجيء إلى المطار لاضطراره السفر إلى مانشستر وأنه قد حجز لك غرفة في الفندق نفسه الذي سينزل فيه الكابتن وطاقم الطائرة."
    كان كلامه برداً وسلاما على نفسي المتوجسة من الخطوات الأولى في عاصمة أحبها بقدر ما أحذرها في أول غربة لي خارج بلدي. الآن بعدما أنتهي من إجراءات الدخول سأحمل حقيبتي وأركب الحافلة التي ستقل طاقم الطائرة إلى الفندق. 
    ولكن من هذا الذي يلوح لي بيده تلويحة متزنة؟ 
     أنا لم أرَ هذا الرأس من قبل.. لم أرَ رأساً يحمل مثل هذه الكتلة المستديرة من الشعر. لقد ضاع وجهه داخل حلقة كثيفة من الشعر الأسود المجعد، وغاب جسمه داخل معطف أسود يشبه معطف (راسكولنيكوف) في رواية "الجريمة والعقاب". ولكن مهلا! فأنا إن لم أعرف هذا الرأس ذو الشعر الكثيف للوهلة الأولى، فإنني أعرف تلك الإبتسامة التي غيب بريقها النحول والشحوب.
    يا إللهي!! إنه ثائر.. ثائر جبران.
    لوحت له بحرارة. 
    أنا لم أبرق له عن قدومي. كل ما هنالك أنني كتبت له منذ أسبوعين تقريباً أنني سألحق به إلى لندن، فكيف علم ثائر أنني قادم اليوم! 
    "هذه بادرة رائعة يا ثائر."
    "الحمد لله على السلامة.." وتعانقنا، وضحكنا، وقلت له إنني أحمل لك سلامات وقبلات من أمك.. 
    أمه العظيمة التي كانت تحتوينا في بيتها، في غرفته الصغيرة، إلى ما بعد منتصف الليل. كانت أصواتنا المختلطة تصل إليها فتنقر على الباب نقرات حنونة قلقة أن اتفقوا ولا تختلفوا.. قالت لي عندما زرتها قبل سفري بيوم: 
    "دير بالك على ثائر.. ثائر أخوك يا طلال.. ولا تختلفوا وحبوا بعض فأنتما في الغربة." **
《بقلم القاص الأستاذ محمد صباح الحواصلي ل.. أيام كندية.. نُشرت في ١٥ اُكتوبر ٢٠٢٠》

مواضيع ذات صلة