الاستنساخ الفكري بقلم لينا بغدادي/ أيام كندية

الاستنساخ الفكري مصطلحٌ جديد ليس مألوفاً للسمع لكنّه التفسير الوحيد لغياب بصمة الروح، تلك التي كانت تميز كل إنسان عن غيره. اليوم أصبح كل إنسان ينتمي إلى بضع مجموعات سوف تتلاشى ربما مع الوقت تلك المجموعات أيضاً، وقد يأتي يوم لتصبح مجموعة واحدة فقط.
 أصبح على الإنسان أن يعرف شيئاً ليدّعي معرفة كل شيء، ففي الأدب أنت مضطر لأن تقرأ كما يقرأ الآخرون، وأن تستوحي منهم الرضى والسخط على المؤلفات الأدبية، وأن تعجب بالأفكار ذاتها، وتعطي الآراء ذاتها، وتتبنى المقتطفات التي أعجبتهم، وإلا فأنت غير مثقف. 
ماذا لو أنك أبديت رأياً مغايراً لآرائهم؟ سوف يصفك البعض بالهامشية والسطحية وبأنك لم تقرأ المعاني العميقة والأهداف السامية الغير الموجودة أساساً إلاّ في تصوراتهم، سبب ذلك أنهم يحاولون ادعاء الثقافة والعمق الفكري وإلا فسوف يظهر للعيان أنهم قشور ثقافية فقط. 
كيف لك أن تسلك طريقاً مختلفاً عنهم وأنت في مجتمع يحاول الجميع أن يكون نسخة طبق الأصل عن غيره فكرياً وثقافياً واجتماعياً. 
 في مجال الأدب بعض الكتاب يفصل كتاباته على الذوق الدارج والأفكار الرائجة، فيكرر الأفكار التي أعجبتهم ويكتب بالطريقة التي يرغبون، قد يكتب باللهجة العامية انسياقاً مع الذوق العام كيف له أن يفعل وقد خلق الأدب فصيحاً، ثمّ كيف يمكن للغة العربية التي تذخر بمفرداتها أن تعجز عن التعبير بما يشبع نهم القارئ.  
هكذا أصبح التفكير لدى فئة من المثقفين، بل تلك التي تدعي الثقافة، فالمثقف الحق بات منبوذاً لأنّه لا يستجيب لآراء محبي الادب السطحي الذي في حقيقته ليس أدباً بما يطرح من أفكار لا نفع فيها ولا تصلح لأي زمن.
 في العمل عليك أن تتبنى أفكار فريق العمل ويا حبذا لو تقمصت بعضاً من تصرفاتهم وعاداتهم، أما حين يكون لك شخصية مستقلة تفكر باتجاه قد يختلف فأنت عرضة للانتقاد والنبذ، هؤلاء البشر لا يحبون المختلفين واندماجك معهم في كل الأمور لا بّد منه وإلا فأنت تخالف سياسة القطيع وعليك أن تستقيل إن لم تستطع الاندماج. 
 هكذا يوماً بعد يوم ستدرك أنك أصبحت نسخة من غيرك.
في المنزل أنت مضطر لأن تقتبس آراء زوجتك أو زوجك وأفكاره، وأي اعتراض يعتبر نشوزاً وتمرداً وباباً من أبواب الشجار، عليك أن تتصرف كغيرك من الأزواج حتى وإن كانت تصرفاتهم لا تناسبك، وأن تعيش بالطريقة ذاتها ولو طرأ تغيير لدى أحدهم فعليك أن تغيّر. 
مع أصدقائك أنت مضطر لأن تبدي الاهتمامات ذاتها وتخوض بذات الأحاديث المطروحة وإلا فسوف تواجه النبذ ولن تصل إلى نقطة التقاء بينكم، لا تناقش أفكارك الغريبة المختلفة لأنهم سوف يرمقونك بنظرات غريبة وكأنك كائنٌ فضائي، فإن حاولت البحث عمن يشبهونك فقد تبوء محاولاتك بالفشل وتجد نفسك منعزلاً ووحيداً.
حتى بما يخصّ مستقبلك لا بد أن تستجيب لتفكير محيطك العائلي وأن تتطابق طموحاتك مع حلم أحد أبويك لكي تكون نسخة طيّعة وطبيعية وإلاّ فأنت مارق يستحقّ العزل.
لو حاولت الهروب من كل ذلك والحصول على عزلة لنفسك والاستمتاع في العالم الافتراضي سيتدفق الاستنساخ من هاتفك المحمول أو جهاز الكمبيوتر وستجد في وسائل التواصل الاجتماعي النسخ واللصق للمنشورات ذاتها في كل مكان ليس لأن المشكلات في العالم قد انتهت ولكن لأن جذور الاستنساخ قد تشعبت في عقولهم ولم يعد لديهم مجرد الرغبة في الابتكار أو التفكير، لماذا عليهم أن يبذلوا جهداً إن كانت تلك الافكار والآراء جاهزة بدون عناء، يتبعها ويحبها الغالبية، وهي صحيحة بالتأكيد فمن المحال أن يجتمعوا على خطأ. 
الصواب للأغلبية وليس لما هو صحيح. 
لو أنك خضت حواراً مع أحدهم وأبديت رأياً مغايراً لرأيه لانهمرت عليك الشتائم كالمطر، هذا إذا لم يصفك أحد منهم بالتخلف والانحراف، عليك أن تكون مثلهم وتتبنى آرائهم ومواقفهم وتحليلاتهم لوضع أو لمشكلة ما وكأنك تفكر بعقلهم لا بعقلك أنت.
إذاً كل ّ شيء ينبغي أن يكون مستنسخاً، أفكارك وآراؤك وقراءاتك، طريقة طعامك ونوعية ملابسك، وربما ملامحك أيضاً لان معايير الجمال قد تغيرت وأصبحت ترتبط بملامح شخص معين، وبمدى نجاح الاستنساخ.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إن كان الله قد خلق لكل منا بصمة خاصة به لا تتكرر ولا تشبه بصمة أحد، فلماذا إذاً نسعى لأن نكون نسخة من غيرنا، هل أصبح التفرد في الشخصية والتفكير شذوذا؟
إن كان على الانسان أن يخفي أفكاره وطموحاته وأراءه وأن يغير من اهتماماته لتناسب الجميع فمتى يعيش ذاته كما هي؟ متى سيكون باستطاعته أن يقول ما يناسبه؟ ويتخذ الرأي الذي يناسبه ويعبر بالطريقة التي يريدها ؟
فقدنا تميزنا، فقدنا ملامحنا الخاصة وربما فقدنا أيضاً مشاعرنا التي كانت تخصّنا نحن لا الآخر، اليوم يكفيك أن تعرف عدداً محدوداً من البشر لتعرف تقريباً كل الأنواع والأصناف البشرية لأننا أصبحنا مستنسخين فكرياً.
 لماذا لا يتم قبول اختلافنا في الفكر والثقافة وفي الموسيقى التي نحب، وفي الرأي والحلم والطموح، وفي منطقنا وإدراكنا.
لسنا مجبرين أبداً أن نكون نسخة من غيرنا، علينا أن نتقبل بعضنا كما نحن، وأن نحترم تميزنا واختلافنا مهما كان هذا الاختلاف، فالاستنساخ الذي وصل إليه العلم كان بهدف العلاج من الكثير من الأمراض، أمّا هذا الاستنساخ الذي نعيش ما الغاية منه؟ وما الهدف من الاستنساخ الفكري؟. 
 
 لينا بغدادي
كاتبة وروائية سورية
 

مواضيع ذات صلة