الجالية العربية في كندا: مراجعة وتقييم وأفكار للنقاش بقلم فارس بدر/ أيام كندية

لا بد من الإقرار أولا أننا كعرب كنديين وصلنا إلى الحائط المسدود وبدأنا الدوران في حلقة مفرغة لا حدود لمحيطها وقعرها الا اذا رفضنا الاقامة وعزمنا باصرار على الخروج. ذلك ان الإجماع (ولو نسبيا) على"تشخيص" من هذا النوع سيحدث الصدمة المطلوبة للشروع بأمرين:
 
الأول: التقييم الضروري للمراحل التاريخية التي عاشتها الجالية العربية منذ بدايات "التشكل الاجتماعي الاغترابي العربي" حتى تاريخه، والهدف من ذلك هو وضع هذه التجربة في دائرة الضؤ وأمام عدسات البحث ومجهر النقد، كي يتسنى للمهتمين في الشأن العام فهم الظروف الذاتية والموضوعية التي رافقت العمل العربي بسائر أشكاله. 
 
الثاني: أهمية الشروع في صياغة عناوين المرحلة الجديدة، أي العمل على بناء رؤية مشتركة لطبيعة المرحلة المقبلة كمقدمة لتعيين الأولويات المطلوب مواجهتها وبالتالي رسم الخطط والمشاريع وآليات التنفيذ وما يتطلبه ذلك من موارد بشرية ومادية.
 
وكمساهمة في النقاش الذي نتداوله  بعض الجهات المعنيّة والذي نتمنى أن يشمل أكبر عدد من أبناء الجالية المهتمين بالشأن العام، سأحاول تقديم صورة مكثفة عن هذا النقاش آملاً في أن يخلق ذلك الصدى المطلوب، خاصة وأن حالة القلق التي تعتري كثيرين من الذين نتحدث معهم، ستشكل حافزا على توسيع دائرة النقاش كمدخل ضروري لتأطيره لاحقا والبناء عليه في المستقبل القريب.
 
إنّنا  نعتبر أن هناك مرحلة من العمل العربي قد شارفت على نهايتها،  وما نشهده الآن من حالة استرخاء وتململ وإحباط ومراوحة، ما هو إلا حالة تعبير عن طبيعة هذه المرحلة ووصولها الى طريق مسدود للأسباب التالية :
 
أولا: تمحور العرب خلال تجربتهم في المغترب الكندي حول دوائرهم الصغيرة،  فشكلوا نسخة عن البلدان التي هاجروا منها. فكانوا إما "قرية" أو "كنيسة" أو "جامعا" أو "حزبا" أو "ناديا". ولبسوا هوياتهم الدينية والطائفية والمذهبية والكيانية والحزبية. وبالرغم من الفروقات والخصائص التي حملتها هذه التجارب، فقد تحولت الجالية إلى مجموعة من "الجزر" المعزولة نسبيا عن بعضها البعض.
 
ثانيا: ابتدعت كل مجموعة "دورتها الداخلية الذاتية" وأقامت لها سياجا رسم حدود طموحاتها وأنشطتها. وهكذا كانت الاحتفالات الدورية على المناسبات الخاصة وسيلة " لشد العصب وتوفير مقومات الاستمرار واثبات الحضور". 
 
ثالثا: شكل هذا الأمر انعكاسا طبيعيا لحاجات اغترابية تفرضها طبيعة الهجرة وتحدياتها، واستطاعت هذه الدوائر/ الجزر أن تقدم الدفء والاحتضان المطلوبين للوافدين الجدد. وقد عرفت هجرات مماثلة تجارب مشابهة للاغتراب العربي، حيث شكل الالتفاف العفوي حول "الدوائر الصغيرة" ملاذا للوافدين الجدد يحميهم من ظمأ الهجرة وقساوة (الصدمة الثقافية) التي لم توفر أحدا من تداعياتها.
 
رابعا: تشكل بعض مؤسسات عابرة للطوائف والمذاهب والكيانات "الاتحاد العربي الكندي و"المجلس الوطني الكندي للعلاقات الخارجية"، إلى "مركز التراث العربي" و"مركز الجالية العربية" في مدينة تورنتو وضواحيها، "النادي الكندي السوري الثقافي " ، يضاف إلى ذلك عدد آخر من التجارب في مدن كندية أخرى كمؤسسة (CAPCA) أي "رابطة رجال الأعمال العرب الكنديين"، على سبيل المثال لا الحصر، والتي ساهمت في التنسيق بين شبكة من الأنشطة الجاليوية بالتنسيق مع الاتحاد العربي الكندي.
 
لقد أدت هذه "الدورة الداخلية الذاتية" وظيفتها، واستنفذت إلى أبعد حدود  معظم أدواتها وأساليبها، فغدت تكرارا رتيبا ومملا حتى على اصحابها ذلك ان تكرار المناسبات ذاتها عاما بعد عام وموسما بعد موسم قد تحول عبئا على أصحابه وبدأ الجميع يشعر بنوع من الاحباط وعدم الرغبة في المشاركة حيث انعكس ذلك تراجعا ملموسا في الشأن العام على المستويات الاجتماعية والثقافية والفنية والسياسية وما إلى ذلك.
 
هذا ما بدأنا نلاحظه خلال المرحلة الأخيرة في "دائرتنا" في النادي الكندي السوري الثقافي. فقررنا "طرح الصوت" على "مجموع دوائرنا أولا"، وفي المحيط/ المتحد الذي نتواصل معه ثانيا، لعلنا في ذلك نتحمل قسطا من المسؤولية المدنية الملقاة على عاتقنا، خاصة وأن سياسة "دفن الرأس في الرمال" لن تساعدنا على مواجهة أي من التحديات التي ستشكل عناويناً للمرحلة المقبلة.
 
*تجربة العقود الأربعة الأخيرة تنتظر مراسم الوداع..
*المطلوب التعاون على إسقاط "الأوهام الخمسة" التي واكبت تلك التجربة.
 
اختصارا، نعتقد ان  هذه "الدورة الداخلية الذاتية" قد أدت وظيفتها، واستنفذت إلى ابعد حدود أدواتها وأساليبها كافة، فغدت تكرارا رتيبا ومملا حتى على اصحابها. ذلك ان تكرار المناسبات ذاتها عاما بعد عام وموسما بعد موسم على قاعدة ( copy and paste)) قد تحول عبئا على أصحابه وبدا الجميع يشعر بنوع من الاحباط وعدم الرغبة في المشاركة. ولقد انعكس ذلك تراجعا ملموسا في الشأن العام على المستويات الاجتماعية والثقافية والفنية والسياسية وما إلى ذلك. إذا ما توفر في أوساطنا إجماع من هذا النوع،  قائم على قراءة متشابهة لطبيعة المرحلة التي وصلنا اليها، فان ذلك سيساهم  في التعاون لإسقاط "الأوهام الخمسة" التي رافقت وطبعت تلك المرحلة من العمل العربي وهي:
 
الوهم الأول:
 
إن واحدة من هذه الجزر/ الدوائر قادرة على مواجهة متطلبات العمل الاغترابي منفردا، وان هذه المهمة أكبر بكثير من الإمكانات البشرية والمادية التي هي بحوزة أي طرف أيا كان حجمها ونوعها.
الوهم الثاني:
 
أن يكون في مخيلة احد الأطراف انه قادر على تعميم تصوره ورؤيته لطبيعة العمل الاغترابي قسرا أو مداورة، وانه لا ضرورة لمساحة مشتركة يتعاون الجميع على بلورة عناوينها وبرامجها.
 
الوهم الثالث:
 
أن يكون العمل الاغترابي قائما على "فضلات وقت" عدد من المتطوعين الغيورين، الذين يعطون ما تبقى لهم من طاقة بعد التزاماتهم اليومية وواجباتهم العائلية وذلك معطوفا على التحديات الحياتية اليومية.
 
الوهم الرابع:
 
إنه بإمكاننا التصدي للتحديات والخيارات الجاليوية بدون "مؤسسات"، وفي طليعتها "مركز للأبحاث والتخطيط ". 
إن هذا الوهم على درجة كبيرة من الخطورة لانه يستنزف الإمكانات ويعبث بالجهود ويعيق عمليات التحشيد المنظمة ويؤدي في النهاية إلى الإحباط. وعندما نقول مؤسسات نعني ذلك الجهد المنتظم القادر على بناء المثلث المتعارف عليه "بالرؤية والمشروع وآليات التنفيذ".
 
الوهم الخامس:
 
إن هذه المؤسسات قادرة على إنجاز أي من المهام المطلوبة منها دون توفر الشروط الضرورية لذلك عبر تأمين الموارد البشرية والمادية. وهذا يعني توفير المستلزمات المالية للجهاز البشري الذي سيتحمل تبعات القيام بأعباء مهمة من هذا النوع ومسؤولية بهذا الحجم. هذا الامر يعني تفرغا كاملا للكوادر الكفوءة والمؤهلة لقيادة هذه المؤسسات في حقول الأبحاث والتخطيط والسياسة والإعلام والاجتماع والعلاقات العامة.
 
إن توفر الإجماع حول قراءة المرحلة السابقة للعمل العربي وبالتالي الاقتناع بضرورة إسقاط "الأوهام الخمسة" التي رافقت تلك المرحلة، سيساهمان مجتمعين إلى الانصراف من حالة المراوحة والإحباط وسيوفران الوقود الضروري لإفساح المجال أمام رؤية جديدة لعناوين المرحلة المقبلة وتحدياتها.
 
لقد انخرطت الجالية العربية في سياق تجربتها خلال العقود الأربعة الأخيرة (منذ السبعينات حتى تاريخه) في عدد غير قليل من الأنشطة الاجتماعية والثقافية والاعلامية والسياسية أتاحت لها اكتساب الكثير من الخبرات ومراكمة الكثير من التجارب. 
 
لقد حان الوقت بتقديرنا إلى إجراء عملية مراجعة نقدية ومسؤولة لهذه المرحلة يشارك فيها جميع الذين شاركوا في إنتاجها ورسم معالمها من دون استبعاد أي من رموزها ومرجعياتها (أفرادا كانوا أم مؤسسات) أحزابا أو جمعيات. 
 
إن فرص العمل المتاحة أمامنا كثيرة ومتوفرة، وإن الجالية تزخر بالإمكانات العلمية والاقتصادية والفكرية، كما وان خريطة الانتشار العربي في عدد كبير من الدوائر الانتخابية باتت تشكل ثقلا لا يستهان به على المستوى السياسي. فبناء عليه، تغدو عملية المراجعة الشاملة مهمة ملحة بامتياز بحيث تضع على عاتق الطامحين في مواجهة هذه المهمة، مسؤولية استكشاف واستشراف معالم المرحلة المقبلة والمشاركة في صياغة عناوينها وتوفير الآليات والموارد البشرية والمادية لإنجاحها.

مواضيع ذات صلة