الأحاديث النبوية على مفترق طرق بقلم معتز أبوكلام/ أيام كندية

ألفت انتباه القارئ الكريم إلى أن بحثي هذا يأتي رداً على تساؤلات بعض الأخوة حول موقفي ورأيي حيال الأحاديث النبوية.
أُجيب بناءً على قرائتي الخاصة وعلى مسؤوليتي وسجيتي وفطرتي، وأنا مسؤول عن ذلك أمام الله ولا أبالي بسواه: 
فقد خلصت بعد تفكير وتمحيص وصفاء ذهن وبصيرة إلى موقفين جليين حيال السنة النبوية أضعهما أمام القارئ الكريم ليُحكّم عقله ودينه وضميره والله من وراء القصد.
▪︎ الموقف الأول وأعتبره موقفاً (ليبرالياً)، مبني على معطيات مختلفة ومنها حديث نبوي، ويُحسب للراوي نقل هذا الحديث بالذات رغم أن متنه يعارض منهج التراثيين إلى حد كبير.
نص الحديث يقول: 
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ ... ) رواه مسلم (الزهد والرقائق/5326)
استنتج من هذا الحديث الصريح أن الرسول ص نهى أصحابه عن كتابة ما سوى القرآن الكريم بل وأكَّد على من كتب أن يمحي ما كتبه. ويقيني أن ذلك كان حرصاً وتورعاً من الرسول ص من أن يخالط كلام الله عز وجل كلام بشر. وأذِن الرسول لأصحابه بأن يحدثوا عنه رخصةً منه، لا أن يكتبوا ويلزموا الناس بما كتبوا، وحسبي أنه صلى الله عليه وسلم، كان يدرك أن الإنسان بطبعه يهوى تناقل الأحاديث والأخبار والسِير والقيل والقال، ناهيك أن ما يمكن أن يُفهم من كلمة (حدِثوا)، هي نفس ما يفهمه أحدنا عندما يقول لصديقه حدّثني عن أبيك مثلاً، فهنا قد يسرد خصال وأفعال وذكريات أبيه، لكنه حتماً لن يفرض على صديقه أن يقلد أباه بأفعاله وحركاته وسكناته.
 
وأيضاً هناك حديث آخر يسترعي الإنتباه وربما الصدمة وهو:
بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً، وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.
 
النقطة الأولى التي أثيرها حول هذا الحديث: لماذا لم يأتي الرسول على ذكر الحديث! ولماذا لم يقل بلغوا عني ولو حديث مثلاً؟؟ أليس من المنطق أن يستشهد بما هو أقل شأن  من الآية وهو الحديث!؟ أليس هذا تأكيد بأن الأحاديث خارج إطار التبليغ بل خارج نطاق الرسالة بالمجمل.
وما أراه هنا أن الرسول ص كان يدرك مهامه الرسولية تماماً، وهي تبليغ آيات ربه فحسب ولا شيئ آخر، ويدعم رأيي هذا، الآية الكريمة:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.
 
النقطة الثانية، تدور حول ( وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ،) واستغرب هنا.. ما شأن أمة بأحاديث أمة أخرى!؟، وما شأن أمة محمد بتناقل أخبار وأحاديث أمة بني اسرائيل!!؟؟
 
والنقطة الثالثة الصادمة أن متن الحديث انتهى ب: وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.
والسؤال التعجبي هنا: هل كان الرسول ليقول ما قاله لو لم يكن يتنبأ وربما على يقين بأن هناك من سيأتي من بعده فيكتب ويروي ويكذب عليه صلى الله عليه وسلم دون علمه وخبره!! 
وعليه فموقفي (الليبرالي هنا) وبناء على ما ورد آنفاً، أن الأحاديث النبوية التي وصلتنا إنما هي تكلُف وما كان ينبغي أن تُكتب وتُدون وذلك بمقتضى وصية أو حض الرسول نفسه ص على عدم الكتابة، وأن كتابة الأحاديث كانت مخالفة صريحة لأمر ونهي رسول الله، وعلى من يؤمن بأن الرسول لا ينطق عن الهوى فليتفضل ويلتزم بما وصى به رسول الله ص (ناهيك أن تدوين الحديث جرى أصلاً من بعد وفاة النبي دون علمه وخبره في القرن الثاني للهجرة وما بعده!!)، ولعل آية مثل (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول..) هي حجة على التراثيين لا حجة لهم، الذين لا يبرحون يستشهدون بها في وجوه الحداثيين، وسؤالي للتراثيين: هل تدوين الحديث أصلاً كان طاعة أم عصيان لأمر الرسول؟؟!! وبذلك أرى أن ما بني على باطل فهو باطل، وما بني على مخالفة فهو مخالف، وأسوق لكم مثال من حياتنا اليومية: هل يقبل أحد منا أن يكتب عنه آخر دون إذنه أو علمه أو خبره أو موافقته؟! فما بالك أن يروي فلان قصصك الشخصية ويتناقل أخبارك بين الناس وعبر العصور، فيُفصل للناس كيف كنت تأكل وتشرب وكيف تثور وتغضب وكيف تأتي وتعاشر زوجتك. واللهِ هذا عجب العجاب!!
 
▪︎ آتي الآن لموقفي الثاني من الأحاديث النبوية واسميه (موقف محافظ).
□ اعتقد أن كل الأحاديث النبوية التي تدخل في سياق فضائل الأعمال وحسن الخُلق وحسن التعامل بين الخلائق، هي على "الرأس والعين" ولا خلاف عليها، ذلك لاعتبار أن الفضيلة لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمان. 
 
□ وأما الأحاديث التشريعية فأراها في شقين اثنين، ما كان منها منطقياً وصالحاً لأهل عصرنا وعرف زماننا فنِعِمَّ به، ﴿  خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199. وأما ما كان خلاف ذلك فيجب توقيف العمل به وأرشفته، والتعامل معه معاملة الآثار والمعالم والمخطوطات التاريخية الإسلامية الموروثة.
 
وقد يسأل سأل، ومن أين وكيف نستقي التشريع إذاً؟
هنا، يجب أن يبرز دور العقول النيرة والمفكرين الثقاة المنفتحين المعاصرين سواء في التخصصات الفقهية أو العلوم الدنيوية كالطب والفلك والقانون والفلسفة واللغة والبيان على أن يكونوا مستقلين متجردين عن أي محسوبيات طائفية أو حزبية أو سياسية ليقوموا بإعادة قراءة وتبيّن النص القرآني (المصدر التشريعي الأصيل) بمقتضى العصر، قراءة رزينة معاصرة، يستخرجون ويستنبطون من خلالها تشريعات جديدة تلائم أحوال ومتطلبات حياة الإنسان المعاصر. وخلاف ذلك نكون نخالف ونبدل سنة الله في الكون، والتي تتمثل في التغيير والتعديل حسب مصالح الناس وضمن الثوابت والأصول لأركان كلاٍ من الإسلام والإيمان. وهذا واجب علماء الأمة المعاصرين وإذا لم يقوموا بدورهم المنوط بهم، فهم مسؤولون مسؤولية كبيرة على تفريطهم وتقصيرهم ولن يُشفع لهم أنهم كانوا حماة لتراث وتشريع الأولين بل ظني أن هذا سيكون وبال عليهم إذ جهّلوا الأمة وأغلقوا عليها منافذ البحث والإجتهاد جيل بعد جيل، وأنهم ساقوا الأمة داخل سراديب مظلمة على مبدأ أغلق عقلك واتبعني. ونتائج هذه التبعية القاصرة نراها ونعيشها جيل بعد جيل ولن نشفى ونستقيم من هذه الحالة المستعصية ما لم نسن قوانين حياتنا الإيمانية من جديد وفق متطلبات القرن الذي نعيش فيه وليس وفق مفاهيم القرن السادس أو السابع..الخ ولا حتى وفق مفاهيم القرن العشرين.
وأرى أن هذا حق لنا وواجب علينا ويتلائم مع طبيعة الإنسان والحياة التي نعيشها، ومرة ثانية أُذكر برأي الأئمة أنفسهم الذين اجتهدوا لأهل زمانهم وأحسبهم كانوا أكثر انفتاحاً وتقبلاً لرأي الآخر من أتباعهم ومناصريهم في عصرنا هذا، الذين ما فتئوا يدافعون عن أراء زهِدَ بها أصحاب الرأي أنفسهم ولم يجعلوا منها ثوابت لأهل زمانهم فما بالنا نتجادل ونتخاصم ونزدري ونتهم بعضنا بعضاً من أجل أراء بشر! 
وأختم بأقوال للسادة الأئمة بهذا الخصوص،
قول أبي حنيفة:
"كلامنا هذا رأي فمن جاءنا بخيرٍ منه تركنا ما عندنا إلى ما عنده."
 
وقول الشافعي:
"إن نظنُّ إلاَّ ظنَّاً وما نحن بمستيقنين"
 
وقول أحمد بن حنبل: 
"لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وتعلم كما تعلمنا."
 
هذا رأيي وهذا ما اعتقده حول هذه المسألة، فإن أصبت أو أخطأت فأمري إلى الله.
 
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد
 
معتز أبوكلام
مدينة ميسيساغا تورونتو كندا 
صباح الثلاثاء ٣٠ حزيران ٢٠٢٠

مواضيع ذات صلة