حتى شيخ الكار لم يسلم بقلم المؤرخ سامي مروان مبيّض/ أيام كندية

"شيخ الكار"...عبارة نسمعها بكثرة مؤخراً نظراً لمحاولة البعض إحيائها في دمشق. ولكن يبدو أن إحدى تلك الجهات لم تفهم الفكرة جيداً وهي تُقدم شهادة ممهورة بختمها لبعض صغار التجار وتُطلق عليهم لقب "شيخ الكار" مقابل مبلغ محدد من المال، كان في نهاية العام 2019 لا يتعدى 50 الفاً. هذا الفعل يتنافى مع جوهر مشيخة الكارات أيام زمان، حيث كان يمنع منعاً باتاً شراء اللقب، أو الحصول عليه دون موافقة ما كان يسمى يومها بمجلس الكار. في هذا المجلس كان يتم إنتخاب "شيخ الكار،" ليكون مسؤولاً عن حفظ أسرار مهنته ومحاسبة كل من يخالف أعرافها وتقاليدها. كان "شيخ الكار" لا يقبل الهدايا ولا الأوسمة، ولا يتقاضى راتباً على عمله بل يَصرف من جيبه على تطوير مشيخته. حتى عند طلب شهادته في جودة أي منتج أو عند تحكيمه لأي خلاف بين أصحاب الكار، كان شيخ الكار يرفض أي تعويض مادي.
 
أما اليوم، فقد ظهرت في دمشق وبفضل هذه الجهات مشيخات لكارات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل شيخ كار الشاورما مثلاً، أو شيخ كار الفلافل. مع احترامنا لهذه المهن وكل من يقوم بها، فهي لا تستوفي شروط مشيخة الكارات، كونها موجودة في الكثير من المدن وليست حكراً على دمشق. وثانياً لأنها تخلو من أسرار يستوجب الحفاظ عليها وتوارثها شفهياً عبر الأجيال. مشيخة الكارات ليست مجرد فولكلور (كما يظن البعض) أو خيال شعبي يستطيع أي شخص أن يعبث به كيفما شاء، بل هي مؤسسة كاملة كان لها أعراف ومرجعية واضحة. إما أن نحترم قواعدها وأصولها، أو أن نتركها في كتب التاريخ والذاكرة الجماعية لأهل المدينة، دون تشويهها.
 
أول من ذكر الناس بهذه الظاهرة الجميلة كان النجم الراحل تيسير السعدي عبر شخصية "أبو ضاهر المنجد" في مسلسل "أيام شامية" في مطلع التسعينيات. ومنذ ذلك الوقت والكثير من الجمعيات تحاول إحياء هذه المنظومة بالرغم من غياب معظم شيوخها الأصليين. هؤلاء ماتوا وأخذوا معهم أسرار مهنتهم والآخرين منهم قاموا بنقلها شفهياً إلى أولادهم وأحفادهم من بعدهم، ولكن أبناء الجيل الثالث والرابع تخلوا عنها في كثير من الأحيان نظراً لتغيّر نمط الحياة وقلّة عائدات مهنة الأباء والأجداد. ولكن قلّة قليلة منهم حافظوا عليها حتى اليوم، وتعاملوا معها بمنتهى الحرص والجدية والأمانة، مثل حفيد مارسيل مزنر مثلاً، شيخ كار البروكار.
 
وكانت قائمة الشيوخ تطول، فمنها جرجي بيطار شيخ كار الموزايك، وموريس نصيري شيخ كار النحاسيات المطعمة بالفضة، ولويس الصرّاف شيخ كار المينا على النُحاس، وأبو يحي نعمة شيخ كار الصدف، وأسعد رمضان شيخ كار القيشاني. هؤلاء كانوا يختارون من يستوفي شروط الانتساب إلى صنعتهم، بعد تجاوزه لامتحان عملي دقيق للغاية، وتدرّيبه في كنف أحد المعلمين الكبار المتعارف عليهم من قبل مجلس الكار.
 
وكان من صلاحيات هؤلاء إعطاء رتبة لكل العاملين في مهنتهم، من "مبتدئ" و"صانع" وصولاً إلى "مُعلم ماهر." ومن يصل إلى مرتبة "شيخ كار" يكون عادة ذوي أخلاق عالية، معروف ومحترم من قبل جميع أهل الكار، ويجب أن يكون قد مارس الحرفة منذ طفولته، ولا يشترط أن يكون أكبر الحرفيين سناً أو أكثرهم ثراءً أو جاهاً. كان يطلب منهم أن يكونوا وسطاء بين أهل الكار والسلطات الحاكمة، وكان يحق لكل مجلس كار عزل شيخهم في حال مخالفته للأعراف أو إفشائه الأسرار أو رفضه الاستماع إلى مشورة الأعضاء.
 
أين نحن اليوم من كل ما سبق؟ إحتراماً لهؤلاء الشيوخ، يجب أن لا نعبث بإرثهم ومنجزاتهم، وأن لا نعطي لقب "المشيخة" إلى من لا يستحقها. هؤلاء الشيوخ قدموا لهذا البلد الكثير من جهدهم وصبرهم وعِلمهم ...حتى من بصرهم وصحتهم، ومات معظمهم حتى دونما ذكر أسمائهم، ليتم استبدالهم اليوم... بشيوخ جدد.
 
تصوير الصديق محمود نويلاتي.

مواضيع ذات صلة