نضال سيجري الغائب الباقي الذي لم يضيّع ضيعته.. عامر فؤاد عامر/ أيام كندية

دمشق - عامر فؤاد عامر
"إن الإحساس بالحريّة أمرٌ، وممارسة الحريّة أمرٌ آخر، فالفنان يعيش الحريّة الحقيقيّة حين يحقق ذاته كاملةً..."، هل حقق الراحل نضال سيجري حريّته بعد هذه الرحلة الغنيّة معنا؟! هل كان لانعتاقه في حبّ الوطن، والعمل، والحياة، وتجاربها تحقيقاً لذاته؟ وهل كان لها معانٍ تزيد من محبّتنا له حتى نستذكره دوماً ليكون حاضراً ليس كفنانٍ وحسب بل كإنسانٍ سوري حاول أن يعلو على ألمه ويرفع كلّ من عرفه فوق الألم الكبير؟!
"إني أصنع إيماءاتٍ بيضاء خلال عزلة"
كان للفنان نضال سيجري في العام 2012 تحدٍّ متجدّد لذاته، إذّ شارك في أعمالٍ دراميّة اسْتُبْعِدَ فيها الصوت كأداةٍ تعبيريّة، وذلك مراعاةً لظرفه الصّحي، فقدّم في مسلسل "الأميمي" شخصيّةً شعبيّةً من الحارة الشاميّة، محاولاً التعبير عن رغباته بحركات يديه وشفتيه وجسده معاً، بكلّ ما أوتي من مقدرة، ولكن الرسام كمال في "بنات العيلة" كان أكثر قرباً للناس بسبب شاعريّة الشخصيّة، والعلاقة الغراميّة السريّة مع زوجة الجار، وعلى الرغم من جمال هذا الخطّ الدّرامي إلا أن أثّر نعمان في مسلسل "الخربة" الكوميدي الساخر كان أكبر من كلا الدّورين السابقين، فبقيَّ مرتبطاً بذاكرة المتلقي مع لوح الكتابة الخاصّ به، والبدّلة البيضاء، والمشاكل التي افتعلها في الخربة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه كان ضيفاً وليس بطلاً في العمل، وللأسف كان هذا الدّور هو الأخير في مسيرته الفنيّة.
 
▪︎ شارلي شابلن العرب
الدّور الأبرز والمعترف به فنيّاً بحسب رأي الشارع ونقّاد الأعمال الدّراميّة، "أسعد خرشوف" في "ضيعة ضايعة" المسلسل الكوميدي ذو الحسّ النقدي الساخر، لمؤلّفه ممدوح حمادة ومخرجه الليث حجو، ولربما إغراق نضال في أبعاد الطيبة التي رسمها الكاتب، وأتقنها المخرج، جاء بقربها الأكثر للجمهور من بين كلّ الشخصيّات التي أداها الراحل، فلا يملُّ المتابع من تكرار مشاهدتها، وطبعاً العمل مجملاً كذلك الأمر. ربما الطبع الذي يمتلكه "نضال" في السخرية من الوجع منح أسعد تجدداً خاصّاً؟! فهذا ما كان يتمتع به حتى في مجرى حياته اليوميّة وتعامله مع صعوبات الحياة، وبوجهٍ عام كانت "أسعد"، كشخصيّة دراميّة، نقطة انطلاق مهمّة نهايتها في الجزء الثاني من العمل، وبعده توضّحت معالم التراجع الصحي لديه ولم يعدّ بالإمكان استيلاد جزءٍ ثالثٍ، فخسر عالم الدّراما مبدعاً تمكن من تجسيد عشرات الشخصيّات بإتقان بين مسرحٍ وسينما وتلفزيون ليكون حالة متفردة خلال سنواتٍ قصيرة.
▪︎ الشراكة والبناء
"أبو مستو" من الشخصيّات الجميلة في مسلسل "زمن العار" بائع الكتب في بسطةٍ على جسر الرئيس، مشاركاً الدّور مع زميله يوسف الذي جسّده القدير بسام كوسا، فشكّلا حكايةً تشبهنا، فلكلٍّ همومه ومغامراته العاطفيّة، وعلى الرغم من قسوة الظروف فهناك حياةٌ تَعصِف بالشخص ليكون حكاية مستقلة بذاته، وما يلفت الانتباه هنا هو البناء التشاركي بين الشخصيّتين حيث أُتقنتا من قبل الممثلين، وهذا ما يذكرنا بشراكة "سيجري" مع باسم ياخور في "ضيعة ضايعة"، وشراكته مع أيمن رضا في "غزلان في غابة الذئاب"، وأسماء كثيرة غيرهما، وما يدلُّ هنا أيضاً هو التأسيس على مبدأ التعاون والاشتراك من أجل جمال اللوحة النهائيّة، وهذا ما يذهب بنا أكثر إلى تمتين القيم والأفكار النبيلة والتي نجدها واضحة في أفعال الفنان نضال سيجري الحياتيّة، وعلى وجه الخصوص قلقه وخوفه من أجل سوريا الأم، وحرصه على لغة المحبّة صلة حقيقيّة بين الجميع.
▪︎ كوميديا ... تراجيديا
لن ننسى حضوره المحبّب في لوحات سلسلة بقعة ضوء، وتميّزه في إتقان الدّور الكوميدي، على تنوّع الشخصيّات وتباينها، ويبدو أنه كان يستخدم هذه الملكة في إضافتها لشخصيّاتٍ من نوعٍ آخر كما صفوان في "غزلان في غابة الذئاب" السارق المُعتاش من هذا المسلك، فقد منح الدّور لمسةً من السذاجة سبّبت ابتسامةً خاصّةً من المتلقي، وهذا الدّور يذكرنا بآخر وهو شاويش "الانتظار" المهرّب والبلطجي في الحارة الشعبيّة، لكن هنا لم يكن للنكهة الكوميديّة أيّ حضور بل على العكس تماماً جديّة بارزة وحادّة لتقديم النموذج القابع في العشوائيّات، والذي يعيش حياته خارج الأنظمة والقوانين، ولربما الإغراق في تفاصيل الشكل منحها المزيد من النفور وكره الشارع لها. 
تتعدّد الأدوار وتأخذ طيف ألوانها المختلف، ولدينا العديد مما يمكن الإشارة إليه خاصّة على خشبة المسرح التي لم يتخلَ عنها الراحل في همومه الفنيّة المهنيّة، كما كان واعياً للسينما فتعدّدت تجاربه، وعلى الرغم من قصر السنوات التي عمل خلالها إلا أنه أضاء كحالة فريدة تركت أثرها لدى القريب والبعيد منه مسافةً، فكان نضال سيجري الذي لا يشبه أحداً.
 
 

مواضيع ذات صلة