الحاسة السادسة بقلم د. محمد فتحي عبد العال

(القلوب عند بعضها) و(من القلب للقلب رسول) كلها عبارات دارجة نسمعها في حياتنا اليومية ومواقف شتى لا يخلو يومنا منها فقد تصادف شخصا يمتلك كل الصفات التي تأسر أي شخص إليه وتدعو لصداقته من الوسامة واللباقة والاسلوب المنمق في الحديث ومع ذلك تجد هاتفا من أعماقك يدعوك للتوجس منه واتقاء شره ومع الأيام تجد أن حدسك قد صدقك وأن هذا الشخص كان شرا مستطيرا على غير هيئته الجذابة وكثيرا ما يخطر ببالنا أشخاص لم نقابلهم منذ أمد طويل وفجأة نجد رسالة منهم فيتحقق حدسنا. هذه العبارات والمواقف تنقلنا إلى أسحار عوالم خفية لا ندركها بحواسنا الاعتيادية .بالطبع إنه لأمر مدهش حقا أن نكتشف بداخلنا قوى خارقة تطل علينا من مكمنها في لحظات الخطر هذه القوى تنشط وتتوارى تبعا للانفعالات والتفاعلات مع المجريات من حولنا... فإدراك ما لايدركه الآخرون والإحساس بالأمر قبل وقوعه جميعها سجايا الحاسة السادسة التي نحن بصددها... جميعنا نمتلك حواسا خمسة هم : حاسة الشم وحاسة اللمس وحاسة التذوق وحاسة السمع وحاسة البصر والإدراك خارج إطار هذه الحواس الخمس المعروفة يقودنا إلى علم الباراسيكولوجي أو علم ما وراء النفس..

وتتميز الحاسة السادسة عن باقي الحواس الخمس بكونها لا إرادية أي أنها ليست ثابتة فهي تحضر لحظات وتغيب أياما وهي ترتبط بتوافر محيط نفسي قوامه صفاء الذهن وهدوء الأعصاب والمزاج المعتدل وكلما كانت الحالة النفسية للفرد جيدة تنشط لديه الحاسة السادسة والعكس صحيح.. والحاسة السادسة لا تعتمد على الذكاء فهي منحة ربانية ولا تدخل في إطار التفكير التحليلي المنطقي الذي يحكمه الذكاء فالحاسة السادسة شعور قد لا يصاحبه برهان أو دليل يثبت صحته أو خطأه بل قد يكون هذا الشعور أحيانا مناقضا لكل منطق...وتكون الحاسة السادسة لدى النساء أقوى وأمضى مقارنة بالرجال. الحاسة السادسة عبر التاريخ: رمز المصريون القدماء إلى البصيرة والعين الثالثة والمرادفة للحاسة السادسة بثمرة الصنوبر أو عين حورس وثمرة الصنوبر بزعم بعض النظريات هي الثمرة المحرمة التي تسببت في هبوط آدم وحواء من الجنة ولكنها أيضا فتحت أعينهما قال تعالى (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ظلت الحاسة السادسة تحتل صدارة النقاش عبر التاريخ بين مؤيد لها ومعارض يراها من الأوهام والخرافات..

لكن الحكم عليها بشكل جازم لم يكن بالأمر اليسير فشواهد عدة من التاريخ والأديان تشير إليها وتنتصر لصحة وجودها. وقد اتخذت تسميات شتى عبر العصور ففي العصر الجاهلي سميت بالكهانة والقيافة والعرافة وشاعت بين قبائل العرب ولقد جاءت هذه الحاسة في التراث الإسلامي مرادفة للتخاطر والفراسة ومكتسية ثوبا صوفيا أحيانا فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اتقوا فراسةَ المؤمنِ؛ فإنَّه يرى بنور الله))، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75]. كما روى الإمام البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ“.ومن أشهر ما جاء في الأثر بشأن هذه الحاسة أن عمر كان يخطب على مِنْبر النبي محمد يوم الجمعة، فعرض له في خطبتهِ أن قال: (يا ساريةُ، الجبلَ الجبلَ، من استرعى الذئب ظلم)و كان سارية بن زنيم الدؤلي الكناني أحد قادة جيوش المسلمين في فتوحات بلاد بلاد فارس سنة 645 م/23هـ .

فالتفت الناس بعضهم إلى بعض، فقال علي بن أبي طالب: ليخرجن مما قال، فلما فرغ من صلاته قال لهُ عليّ: ما شيء سَنَح لك في خُطْبتك؟ قال: وما هو؟ قال: قولك: (يا ساريةُ، الجبلَ، الجبلَ، من استرعى الذئب ظلم)، قال: وهل كان ذلك مني؟ قال: نعم. قال: وقع في خَلَدي أن المشركين هَزَموا إخواننا فركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا، وقد ظفروا، وإن جاوزوا هلكوا، فخرج مني ما تزعم أنك سمعته. قال: فجاء البشير بالفَتْح بعد شهر، فذكر أنه سمع في ذلك اليوم، في تلك الساعة، حين جاوزوا الجبل، صوتًا يشبه صوت عمر: يا ساريةُ، الجبلَ الجبلَ، قال: فعدلنا إليه، ففتح الله علينا. الحاسة السادسة والعلم : وضع السير ريتشارد بيرتون مصطلح الحاسة السادسة عام 1870 ووضع تحته ثلاثة من الظواهر الباراسيكولوجية وهي: التخاطر :ويعني القدرة على الاتصال بين العقول لحظيا دون استخدام الحواس التقليدية الجلاء البصري :وهو القدرة على تخطي حاجز المسافات والحدود ورؤية الأحداث التي تقع بمناطق بعيدة.

الاستبصار :وهو القدرة على التنبؤ بالمستقبل بشكل جلي تناول العالم الألماني رودلف تستشنر ظاهرة الإدراك الحسي الخارق بدراسات جادة كما أكد العالم الفرنسي مايرز على تسمية الحاسة السادسة وحددها على أنها معرفة تحصل بطريقة خارقة ومخالفة للمألوف والقوانين الطبيعية ومتجاوزة الحواس الخمس المعروفة تلاها دراسة للباحث جي. بي. راين إلى جامعة ديوك عام 1934. كان الاعتقاد السائد لوقت طويل هو الربط بين الغدة الصنوبرية والحاسة السادسة وقد بدأ الاهتمام بالغدة الصنوبرية القابعة في تجويف المخ مع اعتقاد العالم الفرنسي رينيه دسكارتس من أنها مقر الروح البشرية ووصفها الفلاسفة الهنود بعين الروح أما ديكارت الفيلسوف الفرنسي فاعتبرها الجهاز المنسق بين الروح والجسد وساد الاعتقاد لدى الصوفية أنها موضع البصيرة لدى الإنسان فهي تكبر عند القرب من الله وتطمر عند البعد عنه وفي كتاب الحاسة السادسة لجوزيف سينيل تحدث عنها باعتبارها الحاسة السادسة للحيوانات الفقارية والمسؤولة عن تواصلها عبر المسافات البعيدة وأنها العضو المسؤول عن التواصل الغريزي والاستثنائي لدى الإنسان وهي في الحيوانات أكبر من الإنسان وفي الرجل البدائي أكبر من المتحضر وفي الأطفال أكبر منها لدى البالغين...

ووفقا للدراسات الحديثة فالحاسة السادسة قد تكون نابعة من جيناتنا وذلك بحسب ما تم نشره في مجلّة (نيو إينجلاند جورنال أو ميديسين) من أن الحاسة السادسة حاسة قائمة بحدّ ذاتها لارتباطها بجين بيزو-2 ( PIEZO2) وهو الجين الذي يؤثر في وعي الجسم والمسؤول عن اتصال واستقبال الحس العميق في البشر. وقد تسبب الطفرة الجينية في هذا الجين في حدوث مشكلات في الإتزان وفقدان الاستجابة للمس... د. محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث مصري

مواضيع ذات صلة