قراءة التاريخ على أسطر الدنا

قراءة التاريخ على أسطر الدنا

مرت البشرية عبر تاريخها الطويل بحقب متنوعة حفلت بالكثير من الروايات التاريخية، وعلى كثرة هذه الروايات وتعدد أطرافها فقد شاب بعضها التضارب واكتنف بعضها الغموض و وقعت فريسة لاختلاف الأهواء والآراء، بل اختلط بعضها بالمبالغات والأساطير. ومع تطور تقنيات تحليل الدنا DNA والأبحاث الجينية، ظهر علم الآثار الجينومي genomic archaeology، ليقدم أدلة علمية تساعد على معرفة أصول الأفراد والعائلات والشعوب، و دراسة حركة تزاوجها واختلاطها وهجرتها في أصقاع الأرض على مر العصور. أما بالنسبة للأصل الجيني والعرق فقد نسفت الأبحاث الجينية أساس العنصرية المبنية على مفهوم العرق النظيف، فكل انسان على سطح الكوكب لديه مزيج جيني من أصول مختلفة تؤرخ لتاريخ من الهجرات والتزاوج. يمكن باللجوء للتحليل الجيني الدقيق وأدواته تقديم رؤى جديدة للأحداث التاريخية وتأكيد أو نفي الكثير من الروايات، ولم يعد من باب الخيال العلمي إمكانية الرجوع إلى التاريخ لتدقيقه وتمحيصه عن طريق فحص عينات الحمض النووي DNA الذي بدأ بسرد التفاصيل الدقيقة عن تاريخ البشرية. التحاليل الجينية تعيد كتابة التاريخ في القرن الحادي والعشرين تخرج الأحماض النووية من القبور بعد وفاة أصحابها بآلاف السنين، لتنطق بالحقيقة المدفونة وتكتب التاريخ على حقيقته، أما مقولة أن الحقيقة تدفن مع أصحابها فقد عفا عليها الزمن.

تعتمد التحاليل الجينية على مجموعة من المعطيات، فدراسة الصبغي الجنسي الذكريY الذي يتوارثه الذكور، هو وسيلة مناسبة لتتبع الأنساب الأبوية . أما الحمض النووي الميتوكوندري الذي يرثه البشر الذكور منهم والاناث من أمهاتهم (حواء الميتوكوندرية) هو الوسيلة الأمثل لتتبع الأنساب الامومية. بينما الحمض النووي الجسدي autosomal DNA الذي يحتوي على معظم جيناتنا الوراثية المسؤولة عن صفاتنا الجسدية والادراكية واصابتنا بالأمراض المختلفة، فهو يسهم في دراسة التشابه والاختلاف في الخصائص الجسدية والمعرفية لدى الجماعات البشرية وصلات القرابة بينها. ويلجأ الباحثون إلى دراسة الحمض النووي المستخرج من رفات الموتى والجثث المحنطة باستخدام تقنيات البيولوجيا الجزيئية، وكذلك تحديد عمرها باستخدام تقنية الكربون المشع C14. قصص تاريخية تعيد الجينات كتابتها قصة الأخوين خنوم نخت ونخت عنخ يعد هذان المومياوان من أقدم وأشهر المومياءات الموجودة في متحف مانشستر واللذين تم اكتشافهما على يد العالم بتري عام 1907، والذي لطالما أثار جدلاً كبيراً حول أصلهما و درجة قرابتهما، حيث كان يعتقد أنهما أبناء أحد الحكام المحليين.

وفي عام 2015 تمكن علماء مانشستر من تحليل عينات مأخوذة من أسنان المومياوين، وكانت نتائج التحليل الجيني تؤكد أنهما أخوان من أم واحدة حيث يشتركان في دنا المتيوكوندريا، بينما كان الصبغي الذكريY مختلفاً مما يثبت أنهما من أبوين مختلفين. توت عنج آمون، الفرعون الصغير كان للتحليل الجيني الدور البارز في الكشف عن أن مومياء مقبرة 55 في وادي الملوك هي لأخناتون والد توت عنخ امون، وهو صاحب أشهر ديانة توحيدية في التاريخ الفرعوني، فيما كشف تحليل الحمض النووي لتوت عنخ امون أن والدته لم تكن نفرتيتي. كما كشفت التحاليل الجينية لعائلة توت عنخ امون اصابتها بعدد من التشوهات ناجمة عن عادة زواج الأخوة، ومنها مرض كوهلر الذي يدمر الخلايا العظمية، وان توت عنخ امون كان يعاني من التفاف القدم وهو تشوه يكون فيه كعب القدم وأصابعها معقوفة للداخل. كما تظهر التحاليل وجود جينات طفيلي الملاريا في المومياء، مما يرجح أن وفاته المبكرة كانت بسبب مضاعفات مرض الملاريا، مما ينفي قصة اغتياله التي ظلت سائدة لسنوات طويلة. المومياء الصارخة كشفت دراسة الحمض النووي تفاصيل قصة المومياء الصارخة الشهيرة والتي لم تكن محنطة على الطريقة الفرعونية، بل ملفوفة في جلد الماعز والذي يعد اهانة وعقاب للمتوفي .

وقد ظلت قصة هذه المومياء مجهولة لفترة طويلة، وهي لشخص شاب مفتوح الفم ويظهر عليه الخوف والرعب. وقد تبين من خلال التحليل الجيني انها لابن رمسيس الثالث (بنتاور) والذي كان اشترك في مؤامرة اغتيال أبيه فيما عرف بمؤامرة الحريم الشهيرة. آمال وتحديات: لا يزال علم الآثار الجينومي في بداية الطريق نحو وضع أسس البحث وتطوير أدواته وابتكار منهج علمي دقيق يمكن الاعتماد على موثوقية نتائجه، والتي لا تزال تصطدم بعوائق عديدة منها قلة العينات الصالحة للتحليل وصعوبة الحصول على الحمض النووي من العينات القديمة، اضافة إلى تأثير المناخ خاصة في المناطق الحارة والرطبة، على عكس العينات المأخوذة من المناطق الباردة كسيبيريا والتي حفظت تحت ثلوجها الكثير من الأحماض النووية ذات الجودة العالية. كما يجب أن توضع معايير معتمدة تلغي تأثير أهواء الباحثين وافتراضاتهم المسبقة وميولهم الدينية والعرقية والتي يمكن أن تؤثر بشكل غير مباشر على تفسير نتائج التحاليل وتعطي معلومات منحرفة عن الواقع.

د.منى كيال- استشاري مختبرات

د.محمد فتحي عبد العال - كاتب وباحث

مواضيع ذات صلة