حاتم علي ... كلام الصمت في زمن الثرثرة

حاتم علي ... كلام الصمت في زمن الثرثرة
تحيّة في رحيل النبيل
دمشق – عامر فؤاد عامر

"عندما تروي للناس قصّة فأنت جزءٌ منها"، نقرأ في السيرة المهنيّة للفنان حاتم علي لنجد أنه شخص غير اعتيادي، ضحى من وقته، وأعطى من روحه لإنجاز مشاريع إبداعيّة بين الكتابة والتأليف، والتمثيل، والإخراج، جاءت سمتها الغالبة التشارك مع الآخر، والعمل الجماعي، والتعاون الخلاق، فكانت "التغريبة الفلسطينيّة"، "صقر قريش"، "ربيع قرطبة"، "ملوك الطوائف"، "الزير سالم"، "الفصول الأربعة"، "أحلام كبيرة"، "عمر"، "الملك فاروق"، "مرايا"، "صراع على الرّمال"، "الغفران"، وغيرها من أعمالٍ مهمّة عمل فيها كممثل في "عصيّ الدّمع"، "الرّجل س"، "الخشّخاش"، و"العرّاب"، والقائمة تطول، وأيضاً في حقلي المسرح، والسّينما، وفي كتابة السّيناريو، وكثير من المشاريع التي لا تدلّ إلا على كرمه، وعطائه الكبيرين، فهو حاتم عصره، يُعزّينا فقدهُ بما قدّم وغرس للأجيال القادمة، وبما ترك من أثرٍ وبناء في الضمير العام والوجدان.
"ولكن كيف نروي للناس القصّة إذا كانت صعبة؟!"، بمعنى آخر سيكون الراوي جزء من هذه الصعوبة، وبالعودة إلى "التغريبة الفلسطينيّة" نرى بأن الراحل قرّر رواية قصّةٍ طافحةٍ بالألم، لكنه رواها من دون أن يؤذي المتلقي أو يجرحه، بل على العكس كرّسها كمرجعٍ لأيّ متلقي بنبل فكره، ويمكن لأيّ شخص ومن أيّ شريحة متابعتها والتّأثر فيها، وإدراك حقائق القضيّة، والتفاعل معها، وهذا كله يعني أن صاحب التغريبة أراد المحافظة على الآخر، فكم هو نبيلٌ وصادق عندما قرر أن يروي ليحافظ علينا ويحافظ على القصّة معاً.
يبدو أن مشروع حاتم علي لم يكن مشروع ممثل أو كاتب أو مخرج وحسب، فعندما يقرر شخصٌ مثله التصدّي لمواضيع إنسانيّة حسّاسة، وتشرّيحها واستعراض التاريخ من خلالها في لغة دراميّة حيّة؛ لا بدّ وأنه قد ذهب إلى أبعد من فكرة العمل، أو البحث عن الجمال، ولا بدّ أن أبعاداً أكثر من المعتاد كانت تشغل البال، وتكريس معادلة طرفها الأوّل الحفاظ على القصّة، وطرفها الثاني الحفاظ على المتلقي، لا شكَّ أنها تقودنا لرغبة صاحبها "حاتم" بتحقيق أمانة كان يرغب في إيصالها للناس، وهي لا تشير إلا لصدقه أمام المعلومة أو المعرفة التي استحصل عليها.
يزيدنا الفنان القدير غسان مسعود عن محبّة الناس للراحل فيقول: "قلتها ودائماً أقولها بأنه لا يمكن لأحدٍ ما أن يتذاكى على الناس في المسرح، وهذا ما اشتغلُ عليه دائماً كتأسيس في العمل المسرحي، والناس هم دليلي في المسرح كي أذهب إلى العمق والصواب الذي يلامس ذوق الناس، وهمومهم، والفطرة فيهم، ومن هنا عند هذه الفكرة - الفطرة - نقول بأن النّاس أحبّت حاتم، لأنه لم يكذب عليهم في فنّه، بل أعطاهم إيّاهُ بكلّ شغفه، وانتمائه لهذه المهنة، وبكلّ هواجسه المعرفيّة المليئة بالشّكِّ، والقلق، ليصل إلى أفضل صيغةٍ يحترم فيها ذكاء الناس وعقولهم، إذاً هو احترمهم فبادلوه الاحترام والحبّ، هذا هو الجواب بكلّ بساطة".
يُقارَن حاتم علي بـ"تشيخوف"، الذي كتب عن الصمت بطريقةٍ لافتة، وكان الصمت حاضراً بأهميّته وهيبته، ويرى البعض بأن "حاتم" امتداد للمخرج الكبير هيثم حقي في الخروج من الاستديو، وتحرير الكاميرا خارج حدوده، لكن حاتم زاد في المسألة عندما قدّم فضاء دمشق كما هي، فصوّرها مُقحِماً المتلقي السوري والعربي على حدٍّ سواء، ليعرّف دمشق مدينة ذات سحر درامي، حياتي، ويومي، فهذه هي الأماكن التي نعيش فيها، بأسطحتها، وخزاناتها، وستالايتاتها، وارتفاعاتها المتباينة، ومداخلها، وأبوابها، لكن حاتم قدّمها من دون فجاجة أو أذى للعين، فكانت الصورة بريئة وصادقة، لذلك قبلنا منه الشوارع المرقّعة بالإسفلت، والأحياء العشوائيّة البناء، وبدأنا نكتشف الجمال فيها وهي على هذه الحال.
لكن الإغراء ذهب في فنيّة عالية، وفي نفس الوقت من دون  الاستعلاء على المشاهد بل الاقتراب من ذهنه وقلبه معاً، فعندما نرى القدير خالد تاجا في قصر العدل، وفقط يقول بين الجماهير الكثيرة "أين نحن؟"، أو "كم الساعة؟"، أو "هل هناك عدل؟!" مع قهقهة تتبع السؤال، سنعلم منه بعد ذلك بأنها دعوة لنتفكر في حالنا، وذواتنا، والعدل، واللاعدل في حياتنا، حاتم كان كـ"تشيخوف" يُدخل الناس في عوالم حيّة ويجعل من الصمت دعوة للتأمّل والتفكير، لكن "تشيخوف" قدّمها من بلاده، ونحن هنا في بلادنا.
لا بدّ من الإشارة وتذكّر الصور البسيطة التي كانت تظهر بين عددٍ من المشاهد، وعلى الأخصّ المسلسلات ذات الصبغة الاجتماعيّة، صور بسيطة للحياة اليوميّة من حركة السير والازدحام المروري، لقطات من قاسيون إلى دمشق، أو حتى أوراق المفكرة أو مدوّنة التواريخ اليوميّة، كلّ هذه الصّور لم تكن مجانيّة الطرح بل كانت مقصودة، والرقيب هو الزمن، هو الشاهد علينا فيما نفعل، وأين نحن من هذه اللحظة، ماذا سنقدّم وإلى أين نتجه؟
كان المخرج حاتم علي متجدداً، ومن العدل أن نبين هذه الصفة أكثر، ففي كلّ عمل جديد نرى حاتم جديد، وهذه القاعدة لا يحققها أيُّ مخرج، وهذا على صعيد العالم وليس فقط محليّاً أو عربيّاً، ومن الممكن أن نجد هذه القاعدة محقّقة مع مخرجٍ شاب أو مخرج فقط عمل في سلكه ضمن مرحلة الشباب، لكن حاتم علي وبعد قضاء زمن في هذا الميدان نجد أنه مُتجدّد وبعينٍ مختلفة من عملٍ لآخر، فحاتم في "قلم حمرة" ليس كحاتم في "الغفران"، ولا هو كحاتم في "على طول الأيام" أو حتى "الفصول الأربعة"، و"مرايا"، و"أحلام كبيرة"، ومن هذه النقطة يمكننا القول بأن ما كان يقود حاتم علي لهذا التجدّد هو صفتان الأولى التزوّد الثقافي والمعرفي، وهي بلا شكّ السرّ لمن يريد أن يكون مخرجاً مستمر النجاح، والصفة الثانية هي أنه يترك القيادة للنصّ في عمليّة الإخراج، أيّ أنه يثق بالنصّ، والهدف منه، ويذهب به للإخراج بعدها.
نعرّج هنا على فكرة النصّ والتزوّد المعرفي والثقافي، ولا بدّ من الوقوف عند فكرة ما انتقاه المخرج "علي" في نوع النصّ الذي يقود الإخراج، وهنا يبرز النصّ التاريخي في مسلسل "صلاح الدين" الذي كثّف أحداث مائتي عام، ووثقها بطريقة دراميّة أنجحت العمل ليتمّ دبلجته في أكثر من لغة ولهجة، كما حدث في ماليزيا وتركيا واليمن والصومال، وأيضاً في "ربيع قرطبة"، و"صقر قريش"، و"ملوك الطوائف"، أعمال قادت العمليّة الإخراجيّة لتذهب بصورة توثيقيّة، ولكن عبر لغة مسلسل درامي ممتع، ومسلّي، ومفيد في نفس الوقت، وهنا يأتي دور التأسيس لذاكرة التلفزيون، ومساهمة أعمال الراحل، ولا سيّما التاريخيّة، في تعزيز هذه الذّاكرة، ولا بدّ من التوقف عند هذه النقطة وموضوع الذّاكرة المؤقتة للعمل التلفزيوني، التي كسرها الراحل، وجعل من المسلسل التلفزيوني ذاكرة للناس، إذّ أن المتلقي العربي التصقت بذاكرته شخصيّة "الزير سالم" التي أداها القدير سلوم حداد كما رسمها وقدّمها، وكذلك تفاصيل العمل ككلّ، أو حتى شخصيّات "التغريبة الفلسطينيّة" التي جسّدها ممثلون كبار، و"الملك فاروق" التي قدّمها الفنان تيم حسن، ومسلسل "عمر" التي قدّمها الفنان سامر إسماعيل، وبشكّلٍ عام كان بذلك الإنتاج يعمل على إحياء الذّاكرة العربيّة، وهذه مسألة لا يستهان بها على الإطلاق، لأنها تحتاج وعياً وثقافة وإدراكاً على مستوى عالٍ وغير اعتيادي.
يتضح لكلّ متابع ومراقب بأن الراحل كان على علاقة مباشرة بالكلمة، فقبل دخول عالم التمثيل بدأ بتأليف القصص القصيرة، وفيما بعد نشر مجموعتين الأولى "ما حدث وما لم يحدث"، والثانية "موت مدرّس التاريخ العجوز"، كما كتب المسرحيّات بالتعاون مع المسرحي زيناتي قدّسيّة، ومع مرور الوقت تراكم لديه ثلاثة نصوص مسرحيّة، أمّا في كتابة السيناريو فكان له فيلم "زائر الليل"، ومسلسل "القلاع"، وفيلم تلفزيوني بعنوان "الحصان"، وشارك في كتابة فيلم "زائر الليل" مع عبد المجيد حيدر، كما كتب الناقد والفنان فجر يعقوب كتاب "الاستبداد المُفرح" في حواراتٍ امتدت معه لسنوات.
أين حاتم علي اليوم؟! وقد وجدنا بعد رحيله العديد من المشاريع غير المُنجزة، كفيلم "الزير سالم"، والجزء الرابع من رباعيّة الأندلس "سقوط غرناطة"، ومحمد علي باشا ويحيى الفخراني، ومسلسل "السفر برلك" والليث حجو، وغيرها من المشاريع التي لم تكتمل، وفي نفس الوقت نفاخر بوجود مخرج نبيل وصادق كرّس حياته للإنجاز فرفع من منجز الدّراما السوريّة لتنافس أختها المصريّة لسنوات، وليكون اسماً لامعاً في مصر بعد تجربة "الملك فارق"، وتتوالى العروض عليه، ومحاولته الغرس في كلّ مكان، ومنها الفيلم الكندي "السلام عبر الشوكولاته"، ولا يفاجئنا أن الممثل السوري بكى عليه بحرقة، لأنه أدرك ومن دون أن يدري بأن جسراً أثريّاً كبيراً قد فقدناه جميعاً عبرت من خلاله الفكرة، والصورة، والممثل، والتصدير الحضاري، واللغة الجمالية، فمن سيأتي بعده اليوم؟! هل من خليفة يماثله ويحمل نفس روحه العالية؟! لقد رحل وترك منجزاً كبيراً وإرثاً لا يمكن تجاهله، والمطلوب اليوم منا تجاه حاتم علي وكلّ المبدعين الذين فارقوا الحياة بأن نستذكرهم على الدوام في أعمالهم لأن الأجيال الجديدة بحاجة لهذا الوصل والتعريف بهم، ومن دون أن نتجاهل القيمة أو الانصراف عن الواجب.
وعن رحيل حاتم علي يقول المخرج سامي جنادي أيضاً: "بعد وفاة الراحل حاتم علي؛ وكلّ هذه المحبّة التي رأيناها في الشارع، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ومواقع الأخبار أقول بأنني لم أعرف حاتم علي أكثر مما عرفه الناس، إذّ أنهم لم يتركوا شيئاً عنه إلا ونشروه، منذ أيّام النزوح من الجولان وإلى يومنا هذا، كلّ التفاصيل الكبيرة والصغيرة.
لقد جعلتنا محبّة الناس له أن نعيد حساباتنا في الموت، لأنه إحياءٌ جديد بعدما باتَ حالة لا تعنينا كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب تعدّد وتكرار حالات الوفاة، ومع كلّ ما حدث من يوم الجنازة وما بعدها أصبح للموت قيمة ووزن مختلف عن السابق، فقد أعاد حاتم ألق الموت مجدداً".
أيام كندية

مواضيع ذات صلة